حكمت الدولة الزيانية إقليم المغرب الأوسط من مطلع القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي إلى غاية القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي ، وما ميز تاريخ هاته الدولة سياسيا هو أنها كانت تقع بين دولتين قويتين هما الدولة الحفصية شرقا والدولة المرينية غربا ، ما جعلها عرضة للهجمات بشكل مستمر ، و تسبب لها ذلك في الكثير من النكسات.
و ارتبطت الدولة الزيانية بعلاقات متنوعة مع الدول المجاورة لها بالمغرب و الأندلس و أوربا و بلاد المشرق ، و كانت علاقاتها مع دولة المماليك (1) بمصر متميزة كون أن هذه الدولة كانت الأقوى ببلاد المشرق ، و كان لها شرف الزعامة الروحية على العالم الإسلام وحمايته من الأخطار الخارجية ، خاصة بعد انتقال كرسي الخلافة إلى القاهرة بعد سقوط بغداد (2) .
إن غلبة الطابع السياسي على تاريخ الدولتين الزيانية و المملوكية لم يمنع من بروز المشهد الثقافي ، حيث أن حكامها قد اعتنوا بالحركة الثقافية خاصة بالعاصمتين تلمسان و القاهرة التين كانتا في ذلك العهد من مراكز الإشعاع الثقافي ببلاد المغرب والمشرق الإسلاميين بفضل ما ابتني بهما من مؤسسات تعليمية (مساجد و مدارس و كتاتيب و زوايا…..)، و تخصيص الحكام لجزء من المداخل لخدمة النشاط الثقافي و الإنفاق على العلماء و الطلبة . و أقل ما يمكن قوله أن الحياة الثقافية بالبلدين كانت تشهد الازدهار خاصة خلال القرن الثامن الهجري الرابع عشر ميلادي الذي يعد من أزهى فترات العطاء الفكري و العلمي و كثرة التآليف و حركة العلماء و الطلبة بين البلدان الإسلامية بالرغم من تردي الأوضاع السياسية.
إن دراسة العلاقات الزيانية المملوكية سياسيا و ثقافيا يدفعنا للبحث عن مميزات هذه العلاقات ومظاهرها و أثرها على البلدين .
العلاقات السياسية:
ميز العلاقات السياسية الزيانية المملوكية الدور الذي قام به بنو مرين في تشكيل طبيعة هذه العلاقات بين التأزم و الإنفراج ، خاصة و أن بني زيان كانوا في صراع مستمر ضد بني مرين ، وربما تطلعوا أول الأمر إلى سلاطين المماليك من أجل الحصول على تأييدهم في صراعهم ضد جيرانهم ، لكن المماليك كانوا على دراية كافية بالوضع السياسي في بلاد المغرب و موازين القوى به ، و أن بني مرين هم الأكثر قوة ، خاصة بعد حملهم لواء الجهاد ضد النصارى بالأندلس ، فحرصوا على تمتين الروابط معهم و إظهار الود نحوهم و كسبهم بالسفارات و الهدايا (3).
أدى التقارب المملوكي المريني إلى فتور في العلاقات الزيانية المملوكية ، و يعود تاريخ ذلك على الأرجح إلى أيام الحصار المريني لمدينة تلمسان و ما عاناه ملوكها و سكانها من محن لمدة ثمان سنوات (4)، وكان السلطان المريني أبو يعقوب يوسف إبن يعقوب (5) قد بعث سنة 704هـ/1303م إلى السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون (6) رسولا ومعه هدية في ركب من الحجيج المغاربة قاصدين الحج ، فقابلهم الناصر و أكرمه بعث معهم أميرا رافقهم حتى قضو فريضة الحج ، و رجع الوفد سنة 705ه/1304م و معه هدية من السلطان المملوكي ووصلوا إلى أبي يعقوب يوسف المريني و هو مقيم بالمنصورة (7) في ربيع الثاني 706ه/1305م ، و وصل مع الوفد أميران مملوكيان فقابلهما أبو يعقوب و أكرمهما و بعث بهما للسياحة في فاس ومراكش (8).
وفي 707هـ/1307م عاد الأميران المملوكيان من فاس و معهما ركب من الحجيج المغاربة و هدية من السلطان أبي ثابت خليفة أبي يعقوب يوسف (9) ، و عند مرور الركب بتلمسان طلب من أبي حمو موسى الأول (10) خفيرا يخفرهما إلى تخوم الدولة الزيانية شرقا بسبب اضطراب المسالك في المغرب الأوسط بعد مقتل أبي يعقوب يوسف المريني و نهاية حصار تلمسان، و بعث معهما بعض الأعراب لحراستهم ، ولكن اعترضهم قطاع طرق من أعراب زغبة (11) كانوا بنواحي المدية و نهبوهم (12) ، و كان الاعتقاد السائد آنذاك أن عملية النهب تلك قد تمت بتدبير من السلطان أبي حمو موسى الأول (13) ، وإن صح ذلك فإنما يعبر عن مدى استياء بني زيان من موقف المماليك الذي كان مواليا بني مرين خاصة أيام الحصار .
كانت هذه الحادثة سببا في استياء السلطان الناصر المملوكي من بني زيان فأرسل إلى أبي حمو موسى الأول يعاتبه ويؤنبه ، كما بعث إليه بهدية مكونة من كوزين من دهن البلسان المستعمل عند المماليك و خمسة مماليك من الترك بخمسة ، و قد فهم السلطان الزياني ذلك على أنه احتقار له ، فأمر كاتبه القاضي محمد بن هدية (14) بأن يكتب رسالة إلى الملك الناصر جاء فيها :”أما عتابك على شأن الرسل و ما أصابهم في طريقهم ، فقد حضروا عندي وأبنت لهم الاستعجال حذرا مما أصابهم ، وأريتهم مخاوف بلادنا وما فيها من غوائل الأعراب ، فكان جوابهم : إنا جئنا من عند ملك المغرب فكيف نخاف ، مغترين بشأنهم يحسبون أن أمره نافذ في أعراب قبائلنا ، وأما الهدية فردت عليك ، أما دهن البلسان فنحن قوم بادية لا نعرف إلا الزيت و حسبنا به دهنا، وأما المماليك الرماة فقد افتتحنا بهم إشبيلية و صرفناهم إليك لتفتح بهم بغداد و السلام ” (15).
إن قراءة تحليلية لهذه الرسالة تحيلنا على طريقة كتابتها التي تدلنا بدورها على مدى استياء بني زيان من المماليك ، حيث كتبت بصيغة المفرد المخاطب ، و لم تستعمل فيها ميم الجمع و لا نون الجمع و هذا الأمر مخالف تماما لأسلوب كتابة الرسائل في المغرب (16) ، كما لم تفتح بذكر الألقاب الملوكية و التحية إضافة إلى لهجتها الحادة ، ما يؤكد أن استياء بني زيان من المماليك كان في ذروته ، و استمر هذا الوضع حتى تولى أبوتاشفين عبد الرحمن الأول الحكم سنة 718هـ/1318م ، و قد حاول هذا السلطان إعادة العلاقات و إصلاح الأمور مع سلاطين المماليك ، فأرسل سنة 725هـ/1325م رسالة إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون معبر له فيها عن حسن نواياه و موضحا له سبب استياء بني زيان من المماليك .
ومما جاء في هذه الرسالة بعد ذكر الألقاب الملوكية التي اختص بها سلاطين المماليك :” السلام عليكم ورحمة الله و بركاته من أخيكم البر بكم الحريص على تصافيكم ، عبدالرحمان بن أبي موسى بن يغمراسن . و إنا كتبنا إليكم كتب الله لكم أنجح المقاصد و أرجحها و أثبتها عزا، وأوضحها من حصن تلمسان حرسها الله تعالى ” (17).
وفي سبب استياء بني زيان من المماليك كتب أبو تاشفين : ” وقد وجب شكركم علينا من كل الجهات ، واتصلت المحبة و المودة طول الحياة ، غير أن في قلوبنا شيئا من ميلكم إلى غيرنا واستئناسكم ” (18) ، وكان قصده ميل المماليك إلى توطيد علاقاتهم مع بني مرين على حساب بني زيان .
إن الجهود التي بذلها أبو تاشفين في تقربه من الناصر المملوكي لم تفلح حيث أن دعوته إلى الصلح لم تلقي الترحيب في القاهرة ، و ما لبثت تلمسان ، أن سقطت في يد بني مرين في يوم 28 رمضان 737هـ/1337م و قتل أبو تاشفين (19) ، وعلى إثر ذلك بعث السلطان المريني أبو الحسن (20) برسالة إلى الملك الناصر يخبره فيها بما تم على يديه من الفتوح ، واصفا له خبر بني زيان و كيف حاصر تلمسان و قذفها بالمجانيق ، و كيفية اقتحامها و قتل ملكها أبي تاشفين (21)، فرد عليه الملك الناصر برسالة هنأه فيها بمنجزاته وأبدى له تأييد المماليك لبني مرين (22) .
ولعل هذا الوضع قد استمر طيلة عهد المماليك البحرية حيث لا تتوفر الوثائق التي تدل على عكس ذلك ، غير أنا الأمر قد تغير بعد قيام دولة المماليك الجراكسة ، حيث بعث أول ملوكها الظاهر أبي سعيد برقوق بهدية إلى السلطان الزياني أبي زيان محمد بن أبي حمو سنة 799هـ/1397م، وكانت هذه الهدية مكونة من القماش و الطيب ، فرد عليه أبو زيان بهدية أخرى مكونة من ثلاثين من الجياد المسرجة و الأقمشة ، و معها قصيدة من نظمه يمدح فيها الظاهر برقوق ، و مما جاء فيها :
سعـد الأمير أبو سعـيد فـإنه سيف على هـام العدى مسلول
ملك يحج المغـرب الأقصـى به فلهم به نحو الرســول وصول
ملك به نـام الأنـام و أمـنت سبل المخاف فلا يخــاف سبيل
فالملك ضخم و الجنـاب مؤمل والفضل جم و العطـاء جزيل
وكان من شأن هذه السفارات و الهدايا أن تخفف من حدة التوتر في العلاقات السياسية ، و فسحت المجال للدولتين كي يربطا علاقات أخرى خاصة في المجال الثقافي.
الروابط الثقافية:
إذا كانت العلاقات السياسية الزيانية المملوكية قد تأرجحت بين التأزم و الانفراج وخضعت لعوامل موازين القوى في بلاد المغرب عموما ودور السلاطين في ذلك ، فإن الروابط الثقافية كانت بعيدة نسبيا عن المؤثرات السياسية ، و خضعت لجملة من العوامل ساهم فيها الحكام و العلماء والطلبة و الحجيج الذين كانوا يتنقلون بين المغرب الأوسط و مصر و عملوا على توطيدها وتمتينها و إثرائها.
لقد كانت الرحلة بين البلدين من أهم العوامل التي ساعدت على التقاء المغاربة و المصريين وتبادل المعارف فيما بينهم ونسج خيوط العلاقات الثقافية. وكانت بلاد المشرق عموما ومصر على الخصوص مفتوحة لمن يريد التجوال فيها خاصة لطلب العلم ، وكثر عدد المرتحلين من المغرب إلى المشرق بإختلاف أهداف الرحلة مدفوعين بعوامل جدب كحرص سلاطين المماليك على جلب الناس إلى بلادهم للسياحة و التجارة و العلم ،و إقامتهم للمرافق الخاصة بالزوار والوافدين وحسن إستقبالهم فيها ، و توفير الظروف المناسبة لطلبة العلم و شيوع ذكر علماء مصر في الآفاق مما حفز المغاربة أكثر على التوجه إليها لتحصيل العلم و التعرف على المنهاج و المصنفات (24).
وحرص سلاطين الدولتين الزيانية والمملوكية على توفير أنسب الظروف لمرحلتين خاصة إذا كانوا قاصدين البقاع المقدسة بالحجاز ، وكانت رحلة الحج من أثمن الفرص التي كان يلتقي فيها العلماء و الطلبة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي و يتبادلون المعارف و المستجدات العلمية ويتعرفون على بعضهم البعض و يوثقون الروابط في المجالات العلمية(25).
أما الرحلة في طلب العلم فكانت موقوفة على الطلبة والعلماء الذين يتحملون مشقة الطريق وأهوال البحر من أجل الوصول إلى منابع العلم و الأخذ من كبار العلماء ، وكانت هذه الرحلة من الأمور التي كان الشيوخ يحفزون الطلبة عليها لكونها تزيد من معارف الطالب وآفاقه وتوسيع مداركه العلمية وينوع من خلالها مآخذه حتى يتأهل علميا للتدريس وترأس حلقات العلم عند عودته إلى بلاده(26).
وتواجدت على أرض مصر المملوكية بعض المنشآت التي كانت مخصصة لاستقبال و إيواء الطلبة المغاربة كان أشهرها رواق المغاربة بالجامع الأزهر ، الذي كان عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم كالفقه و الحديث و التفسير و النحو ، و مجالس الوعظ وحلقات الذكر ، وكان أهل المال يقصدونه و ينفقون عليه ، و يحبسون الكتب التي كان الطلبة ينتفعون بها (27).
كان وجود رواق المغاربة بجوار أروقة الطوائف الأخرى بالجامع الأزهر قد أتاح لطلبة المغرب الأوسط فرصة الاحتكاك بأقرانهم القادمين من مختلف الدول الإسلامية و أنتج ذلك جوا من التبادل الثقافي انتفع به جميع المقيمين بالجامع الأزهر في عملية أخذ وعطاء علمي.
كان للعلماء المرتحلين بين المغرب الأوسط ومصر دور كبير في تمتين الروابط الثقافية ، و قد تميزت حركة العلماء بين البلدين باختلاف نسبة التوافد ، حيث كانت مصر تستقبل الكثير من علماء المغرب الأوسط في حين تسجل المصادر رحلة عالم مصري واحد زار المغرب الأوسط خلال القرن 9هـ/15م ، ويمكن تعليل ذلك بكون مصر كانت عاصمة للعالم الإسلامي و كانت المقصد الأول لعلماء البلدان الإسلامية من المشرق و المغرب ، في حين لم يكن العلماء المصريون في حاجة للتنقل إلى بلاد المغرب لأنهم كانوا يلتقون بالعلماء المغاربة في مصر أو في الحجاز خلال فترات الحج .
وكان العلماء المرتحلون من المغرب إلى مصر يشاركون في حلقات العلم ، و تولى الكثير منهم الوظائف العلمية في المؤسسات التعليمية المصرية وكعينة عن ذلك :
محمد بن عبد الله حافي رأسه (ت:693هـ/1293م) ، وهو محي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر المالكي التلمساني ، ولد 606هـ/1209م بتيهرت (28) ، وتعلم بتلمسان ثم ارتحل إلى مصر واستقر بالإسكندرية و أخذ بها عن جملة من العلماء ، ثم تصدر للتدريس مدة طويلة و تخرج به الكثير من العلماء منهم تاج الدين الفاكهاني (29) ، و انتهت إليه رئاسة النحاة بالإسكندرية ، و صار شيخ هذا العلم بها و كان أحد النحاة المشهورين ببلاد المشرق(30) ابن أبي حجلة التلمساني (ت:776هـ/1375م) ، ولد بتلمسان سنة 725هـ/1325م وسط عائلة صوفية و تعلم على شيوخ المدينة ، ثم ارتحل إلى المشرق واستقر بدمشق ثم بالقاهرة ، وتولى مشيخة الصوفية بصهريج منجك (31) آخر حياته .
و كان ابن أبي حجلة شاعرا وأديبا ، وألف الكثير من المصنفات في العلوم الدينة والنحو والأدب أهمها ديوانه الشعري المسمى “الصبابة” الذي تناول فيه موضوع المحبة ، و قدمه إلى السلطان المملوكي الناصر حسن سنة 756هـ/1355م (32).
أبو عبد الله محمد بن مرزوق الخطيب (ت:781ه/1379م) : الذي يعد من أبرز علماء المغرب الأوسط الذي كان لهم أثر ملحوظ في مصر لمكانته المعتبر بين العلماء المصريين و عند السلطان المملوكي و الأمراء المماليك ، و قد ارتحل ابن مرزوق عدة مرات إلى مصر ، والتقى بالكثير من العلماء (33) ، و في 763هـ/1360م ارتحل بنية الاستقرار فأكرمه السلطان الأشرف شعبان و ولاه الوظائف العلمية و التدريس بعدد من المؤسسات التعليمية بالقاهرة حتى وفاته ، وكان من المرشحين لتولي قضاء المالكية بالديار المصرية (34).
أبو الفضل محمد ابن إبراهيم بن عبد الرحمان بن محمد بن الإمام (ت:845هـ/1442م) ، الذي بعد ما درس بتلمسان وتمكن في الآداب و التصوف والطب، ارتحل إلى القاهرة ثم زار بعض المدن بالشام، وهو أول من أدخل بعض الكتب المشرقية إلى بلاد المغرب منها كتاب شامل بهرام و شرحه على المختصر ، وحاشية التفتازاني على العضد و شرح ابن هلال على ابن الحاجب الفرعي و غيرها من الكتب التي لم تكن معروفة و متداولة بالمغرب (35).
و من العلماء المصريين الذين ارتحلوا إلى المغرب الأوسط : عبد الباسط بن خليل بن شاهين الشيخي الملطي الأصل ثم القاهري الحنفي(ت:920هـ/1514م) (36)، وقد مال عبد الباسط إلى دراسة الطب فقصد بلاد المغرب سنة 866هـ /1462م ، وعند مروره بمدينة الجزائر تبرك بالشيخ عبد الرحمان الثعالبي وسمع بعض فوائده و سأله بعض الأسئلة فأفاده بإجابتها و أجازه (37) ، ثم دخل تلمسان سنة 868ه/1464م ، والتقى بالكثير من علمائها و أخذ عنهم و أعجب بمكانتهم (38)، كماالتقى بالطبيب محمد بن على بن فشوش أحد أطباء تلمسان ، وحضر دروسه و أجازه (39)، كما لازم الطبيب اليهودي موشي بن سامويل بن يهودا الإسرائيلي المالقي وأثنى عليه في رحلته (40).
كما اتصل عبد الباسط بملوك بني زيان و من قوله فيهم :
أعني المليك الذي شاع مكارمـه من آل زيان أقيال أماجيد
هم الملوك و أبناء المـلوك ومن يقل سوى ذا فداك مــردود (41) .
إن هؤلاء العلماء و غيرهم قد ساهموا فعليا في عملية تمتين الروابط الثقافية بين المغرب الأوسط ومصر من خلال مشاركتهم في النشاط الفكري و العلمي بالبلدين ، و إذا حاولنا حصر مظاهر هذه الروابط فإن يصعب لكون معنى الثقافة يشمل الكثير من المجالات الدينية والروحية و العلمية و الفنية و المعمارية لكن سنقتصر على ذكر بعض المظاهر في الجوانب العلمية فقط:
ففيما يخص منهاج التعليم وطرق التدريس، يلاحظ أن بعض هذه المناهج قد انتقلت من مصر إلى بلاد المغرب الأوسط عبر حركة الطلبة و العلماء ، خاصة و أن القاهرة كانت تشهد حركة تعليمية نشيطة في عصر المماليك (42) ، و الاهتمام و لو نسبيا بتعليم المرأة (43) .
كما تم تبادل الإجازات العلمية بين الطلبة والعلماء بالبلدين وكان طلبة العلم ينتقلون بين المراكز الثقافية بالمغرب و المشرق للإكثار من الإجازات في شتى العلوم .
وتعد المناظرات العلمية من الفرص التي توفرت لعلماء البلدين لتقييم المستوى العلمي وتبادل الأفكار و الآراء ، وتسجل المصادر التاريخية (44) في هذا الصدد مناظرة ابني الإمام(45) لا بن تيمية (46) ومناظرة محمد بن عبد الكريم المغيلي(47) للجلال السيوطي(48) في علم المنطق .
وكان تبادل الكتب والمصنفات بين الطلبة و العلماء بالبلدين قد شكل أبرز سمات الحركة الثقافية بينهما ، حيث دخلت بلاد المغرب الأوسط عدة كتب مشرقية أصبحت من المقررات الدراسية في المؤسسات التعليمية ، و اهتم العلماء بشرحها و تلخيصها و تلقينها للطلبة من تلك المصنفات:
– مختصر بن الحاجب في فروع الفقه المالكي لأبي عمرو عثمان بن الحاجب (ت:646هـ/1248م) (49)، الذي يعد أول من جمع بين الفقه المالكية في مصر و بلاد المغرب (50).
– مختصر خليل ،للشيخ خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب المالكي المصري (ت:648هـ/1286م) (51) ، و هو عبارة عن مصنف في الفقه الملكي .
– كتاب تنقيح الفصول في الأصول لشهاب الدين أبي عباس أحمد بن إدريس القرافي الصنهاجي المصري (ت:684ه/1286م) (52)، و هو كتاب في مقدمات و قواعد علم الأصول .
– ألفية ابن مالك في النحو ، للشيخ العلامة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الطائي الجياني المعروف بابن مالك النحوي (ت:672هـ/1273م) (53)، و هي عبارة عن مقدمة جمع فيها مقاصد اللغة العربية و سماها الخلاصة و اشتهرت بالألفية .
– مغني اللبيب عن كتب الأعاريب أو المغني لا بن هشام (ت:761هـ/1360م) ،و هو كتاب في علوم اللغة العربية و النحو و قد أثنى عليه بن خلدون و على صاحبه(54).
– البردة ، لشرف الدين البوصيري (ت:695هـ/1296م) هي عبارة عن نظم في مدح الرسول صلى الله عليه و سلم (55).
-الجمل في مختصر نهاية الأمل في المنطق ، لمحمد بن نامارو بن عبد الله الخونجي الشافعي (ت:646هـ/1247م) نزيل مصر (56).
– حكم ابن عطاء الله السكندري ، لتاج الدين أحمد بن عطاء الله السكندري (ت:709هـ/1309م) ، تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي و أبي عباس المرسي ،و هي عبارة عن أقوال منثورة في التصوف لشيوخ الطريقة الشاذلية (57)
– وقد انعكس دخول هذه الكتب وغيرها إلى بلاد المغرب الأوسط إيجابيا على تطور العلوم الدينية و اللغوية والعقلية إن العلاقات الزيانية المملوكية سواء سياسيا أو ثقافيا وبغض النظر عن محتواها أي تأرجحها بين التأزم والانفراج بالنسبة للعلاقات السياسية وغناها وتنوعها بالنسبة للروابط الثقافية,توضح لنا مدى التقارب الذي كان موجودا بين الدول الإسلامية والأقاليم المشرقية والمغربية ورغبة حكام مجتمعات هذه البلدان في تجسيد الوحدة الإسلامية سياسيا وثقافيا في إطار التنوع والاختلاف بين الآراء والأفكار عبر الامتداد الجغرافي للعالم الإسلامي.
الهوامش:
(1) حكم المماليك مصر والشام والحجاز من 648هـ/1250م إلى 923هـ/1517م، وتنقسم دولتهم إلى الدول المماليك البحرية 648- 784هـ/1250-1382م ودولة المماليك الجراكسة 784- 923 هـ/1382-1517م ،وحول تاريخهم يمكن الرجوع إلى :بيبرس الدوادار ،زبدة الفكرة في التاريخ الهجرة،تحقيق ،زبيدة محمد عطا ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ،القاهرة ،2001 – بدر الدين العيني ،عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 3 أجزاء ،تحقيق: محمد محمد أمين ،مطبعة دار الكتب ،القاهرة 1987/1989 – تقي الدين المقريزي ،كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك ، 4أجزاء تحقيق :مصطفى زيادة،سعيد عبد الفتاح عاشور ،لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة1934-1972- جمال الدين أبو المحاسن بن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر في مصر والقاهرة ، (الأجزاء 7-15) ،تحقيق: إبراهيم علي طرخان، المؤسسة المصرية العامة ،القاهرة 1972.
(2) سقطت بغداد على يد المغول سنة656هـ/1258م، وقتل آخر خلفاء بني العباس وتم إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة على يد الظاهر بيبرس البندقداري سنة 659هـ/1261م. بيبرس الدوادر، زبدة الفكر ، المصدر السابق ص86.
(3) كان من عادة ملوك المغرب والمشرق المهاداة والمسفارة فيما بينهما في أمور السلم والحرب ،مثل سفارة صلاح الدين الأيوبي التي بعثها إلى المنصور الموحدي يطلب منه السند في حربه ضد الصليبيين،وسار خلفاء الموحدين و الأيوبيين على هذا المنهج ،عبد الرحمن بن خلدون،كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر،ج 6 ،دار الكتاب اللبناني ، بيروت 1981 ،ص513-514.
(4) دام الحصار من 699هـ/1298م إلى غاية 707هـ/1307م عبد الرحمن بن خلدون ، العبر ،ج7،ص194.
(5) حكم من 685هـ/1286م حتى مقتله بالمنصورة أيام حصار تلمســان سنــة 706هـ/1307م ،إسماعيل بن الأحمر ،روضة النسرين في دولة بني مرين ، المطبعة الملكية ،الرباط 1962 ،ص21.
(6) هو تاسع ملوك البحرية ويعد عهده الأوج في الحكم المملوكي بمصر،وكانت فترة حكمه الأطول بين سلاطين المماليك حيث امتدت بين 693هـ/1295م حتى وفاته سنة741هـ/1341م،تقي الدين المقريزي ،المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار والمعروف بالخطط المقريزية، ط2،ج 2 ،مكتبة الثقافة الدينية ،القاهرة ،1987،ص239-240.
(7) مدينة المنصورة :بناها أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المريني وهو محاصر لتلمسان وشيد بها قصرا وجامعا للصلاة ومؤسسات دينية ومدنية وصحية وتحولت إلى قوة اقتصادية ومالية وعاصمة للمغربيين الأوسط والأقصى ،ابن خلدون ، العبر ،ج7،ص199.
(8) ابن خلدون ،العبر ،ج5،ص409.
(9) هو أبو ثابث عامر بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب بويع بعد مقتل أبي يعقوب يوسف في 706هـ/1306م وتوفي سنة708هـ/1708م وفي فترة حكمه صالح بني زيان وأعاد لهم ممتلكاتهم بالمغرب الأوسط ، ابن الأحمر ،روضة النسرين ، المصدر السابق،ص22.
(10) حكم أبو حمو موسى الأول من 707هـ/1307م حتى 718هـ/1918م وكان حازما في سياسته الداخلية والخارجية واستطاع إخضاع عدة أقاليم من المغرب الأوسط ،يحي بن خلدون ،بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد ،ج1، تحقيق عبد الحميد حاجيات ،المؤسسة الوطنية للكتاب ،الجزائر 1980،ص213-215.
(11) زغبة :من أعاب بني هلال كانت تضم عدة بطون وكانت مواطنهم بنواحي المدية ،ابن خلدون ،العبر،ج7،ص85.
(12) ابن خلدون ، العبر،ج7،ص 905.
(13) ابن خلدون ،العبر،ج7،ص 470.
(14) هو أبو عبد الله محمد بن منصور بن علي بن هدية القرشي 735هـ/1335م كان من أئمة اللسان والأدب ذو بصر بالوثائق ، تولى الكتابة والقضاء بتلمسان ،يحي بن خلدون ،بغية الرواد،ج1،ص116.
(15) ابن خلدون ،العبر،ج7،ص470-471.
(16) أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي،صبح الأعشى في صناعة الإنشا ،ج7،مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة 1985،ص30.
(17) القلقشندي ،صبح الأعشى ،ج8،ص86.
(18) المصدر نفسه،ج8،ص86.
(19) ابن خلدون ،العبر،ج7،ص536 ، يحي بن خلدون، بغية الرواد ،ج1،ص219 محمد بن عبد الله التنسي،تاريخ بني زيان ملوك تلمسان مقتطف من نظم الذر والعقيان في بيان شرف بني زيان ،تحقيق: محمود بوعياد المؤسسة الوطنية للكتاب ،الجزائر ،1985،ص144-146.
(20) حكم من731هـ/1331مإلى752هـ/1352م.ابن الأحمر ،روضة النسرين ، ص25.
(21) القلقشندي،صبح الأعشى،ج8،ص87-99.
(22) المصدر نفسه،ج7،ص395-407.
(23) ابن خلدون ،التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا ،دار الكتاب اللبناني بيروت ،1981م ،ص 1171 – التنسي،تاريخ بني زيان،ص225.
(24) ابن خلدون،المقدمة ، دار الكتاب اللبناني،بيروت 1981م ،ص778.
(25) أبو عبد الله محمد بن مرزوق الخطيب ، المجموع ،مكروفلم بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 20،ورقة92-93.
(26) ابن خلدون ،المقدمة،ص1044.
(27) المقريزي، الخطط،ج2،ص276.
(28) شمس الدين الذهبي ،سير أعلام النبلاء ،ج17،تحقيق : خيري سعيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة د.ت ،ص175.
(29) أبو حفص عمر بن أبي اليمن الإسكندري (ت 731هــ/1334م)، محدث وفقيه وأصولي وأديب ،برهان الدين بن فرحون ،الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب ، مصر 11351هـ،ص186.
(30) عادل نويهض ، معجم أعلام الجزائر ، منشورات المكتب التجاري، بيروت1971،ص119.
(31) بناه الأمير المملوكي سيف الدين منجك اليوسفي الوزيري سنة751هـ/1350م ،وجعل به صهريجا فعرف به ورتب فيه صوفية وخطيبا للجمعة،المقريزي، الخطط،ج2،ص320.
(32) ابن أبي حجلة التلمساني ،سكردان السلطان، تحقيق: على محمد عمر ،مكتبة الخانجي ،القاهرة ،2001،ص54
(33) ابن مرزوق،المجموع ،ورقة 93.
(34) ابن خلدون ، التعريف ، ص848- يحي بن خلدون ،بغية الرواد ،ج1،ص115.
(35) شمس الدين السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ،ج10، دار مكتبة الحياة،بيروت،( د.ت)، ص74
(36) السخاوي ،الضوء اللامع ،ج4،ص27.
(37)عبد الباسط بن خليل ، رحلة عبد الباسط ، نشر :روبرت برنشفك، باريس 1936،ص41.
(38) المصدر نفسه،ص43.
(39) المصدر نفسه،ص44.
(40) المصدر نفسه،ص44.
(41) المصدر نفسه،ص49.
(42) ابن خلدون ،المقدمة ،ص772-775.
(43) عبد العزيز فيلالي ،تلمسان في العهد الزياني ،ج2، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعة،الجزائر 2002،ص349-355.
(44) أبو العباس أحمد المقري ، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب ،ج6، تحقيق: يوسف الشيخ البقاعي دار الفكر العربي،بيروت،1998،ص182- أبو العباس أحمد بابا التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، طبع على هامش الديباج المذهب لابن فرحون ،مصر 1351ه،ص166- أبو عبد الله بن مريم ،البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان ، تحقيق : محمد بن أبي شنب،نشر عبد الرحمان طالب ،ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر، 1986 ،ص123.
(45) أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله وأبو موسى عيسى ابني الإمام :أصلها من برشك ،ارتحلا لطلب العلم وتوليا الوظائف العلمية بعواصم المغرب، توفي الأول سنة743هـ/1343م والثاني سنة749هـ/1349م يحي بن خلدون، بغية الرواد، ج1،ص130- التنبكتي، نيل الإبتهاج ،ص166-168.
(46) تقي الدين بن تيمية ت:728هـ/1328م أحد أعلام عصره في العلوم الدينية ،تعرض لكثير من المحن بسبب أرائه،وألف حوالي 300مصنف، الذهبي ، سير أعلام النبلاء ،ج17،ص541-542.
(47) محمد بن عبد الكريم المغيلي ت:909هـــ/1503م،نشأ بتلمسان ودرس بها ثم غادرها و استقر بواحة بالصحراء واشتهر بفتواه في قضية يهود توات ،التنبكتي،نيل الابتهاج،ص330.
(48) جلال الدين السيوطي ت 911هـ/1505م من العلماء المصرين كان مهتما بعدة علوم، وتولى الوظائف التعليمية بعدة مؤسسات بالقاهرة له عدة مؤلفات، السخاوي ، الضوء اللامع،ج4،65.
(49) ابن تغري بردي، المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي،ج7، تحقيق :محمد أمين ،نبيل محمد عبد العزيز، دار الكتب المصرية ، القاهرة، 1997،ص421-423.
(50) ابن خلدون ، المقدمة،ص808.
(51) ابن فرحون ،الديباج،ص115.
(52) محمد مخلوف، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية،دار الكتاب العربي ، بيروت، 1349هـ،ص188.
(53) عبد الحي بن العماد الحنبلي ،شذرات الذهب في أخبار من ذهب ،ج5،دار إحياء الثراث العربي ،بيروت (د،ت)،ص339.
(54) ابن خلدون ، المقدمة ،ص1022-1059.
(55) ابن العماد ،شذرات الذهب ،ج5،ص432.
(56) الذهبي ،سير أعلا النبلاء،ج16،ص469.
(57) حاجي خليفة،كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ،ج2،استانبول1941،ص675.
منقول من موقع التاريخ
أ. عبد الرحمن بالأعرج قسم التاريخ – جامعة تلمسان