د. إسماعيل زروخي
شكلت الجزائر الهاجس الأكبر لفكر ابن باديس وممارسته مما أضحت تعانيه من ويلات الاستعمار وتعسفاته ومحاولاته لطمس معالم شخصية الأمة الجزائرية الوطنية والقومية بكل ملامحها، فما كان منه إلا البحث في الواقع الجزائري محاولا استكشافه ودراسته وتقديم جميع الطرق والوسائل والاحتمالات التي تؤدي من جهة إلى التصدي للمستعمر، ومن جهة أخرى استعادة الشخصية الوطنية للجزائر التي هي في جوهرها مضمرة لدى كل مواطن من مواطنيها.
انطلاقا من هذه المسألة حاولنا إبراز مدى أصالة فكرتي الوطن والوطنية عند ابن باديس، وكيف استطاع إخراجهما من ضمير الجزائريين أنفسهم، ولم يكن استقاها من غيره خصوصا الغربيين كما تدعي كثير من الدراسات من أن الوطنية كمفهوم حديث عند العرب جاءتهم من الغزو الثقافي الغربي(1).
فإذا كانت هذه المزاعم تنطبق على كثير من المفكرين المشارقة، فهل بالضرورة تنطبق على فكر ابن باديس؟ أم أن ما ينطبق على المشارقة لا ينطبق بالضرورة على المغاربة؟ وهل أن طبيعة المجتمعات العربية في ذلك الوقت كانت واحدة؟ كل هذه التساؤلات وغيرها هي التي ستكون محور دراستنا في هذا الموضوع.
مفهوم الوطن والوطنية في الفكر العربي:
كان العرب يعرفون كلمة الوطن ويستخدمونها في لغتهم، ولكن ما عرف عندهم هو معناه اللغوي، وليس معناه السياسي الذي ظهر حديثا، إذ جاء بمعنى الإقامة والمحل الذي يقيم فيه الإنسان ويمارس من خلاله وظائفه الحياتية، وهذا ما عبر عنه ابن منظور بقوله: الوطن: المنزل تقيم فيه وهو موطن الإنسان ومحله وأوطان الغنم والبقر مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها يقال: أوطن فلان أرض كذا وكذا أي اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيه(2)، فمن هذا التعريف يتضح أن موطن أمة أو جماعة ما هي إلا الأرض التي تستقر فيها وتستغلها وتستثمرها.
وقد تطور مفهوم الوطن بالتطور الذي مرت به المجتمعات البشرية حتى أصبح يعني في مفهومه الحديث تلك الروابط الروحية والوجدانية التي تتجاوز حدوده ومعانيه المكانية –المادية- وأضحى بهذه المفاهيم قطبَ الوحدة والربط بين الجماعة البشرية التي تستقر فيه وتنسب إليه، فتولدت عن هذه الرابطة ما يعرف بالوطنية.
وكان من أوائل المفكرين العرب الذين تناولوا هذه المسألة في العصر الحديث الطهطاوي الذي عرف الوطن بقوله: إنه المتأصل به والمنتجع إليه الذي توطن فيه، واتخذ وطنا ينسب إليه تارة اسمه فيقول مصري مثلا، أو إلى الأهل فيقال أهلي، أو إلى الوطن فيقال وطني(3)، وكان الوطن –بذلك- من أهم مظاهر الافتخار والانتساب والوحدة لأنه: لابد لذوي الحياة السياسية من وحدة يرجعون إليها ويجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجرا صلدا، وأن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه(4)، فكان بذلك هوية الأمة وماهية وجودها لأنه كما يقول محمد عبده لا حقيقة له إلا بهم وفيهم، ولا رفعة فيه إلا منهم ولهم(5).
ومن هذه المنطلقات كان لا بد على كل من يقطن وطنا ويستقر فيه أن يحبه ويدافع عنه ويحميه، وفي هذا الشأن يقول محمد عبده: فإذا تقرر ذلك مما مكناه وجب على المصري حب الوطن من كل الوجوه فهو سكنه الذي يأكل فيه هنيئا ويشرب مريئا، ويبيت في الأهل أمينا(6).
فإذا كانت هذه دعوة محمد عبده إلى المصريين في القرن التاسع عشر، فإننا سنجد دعوة ابن باديس للجزائريين دعوة أكثر حماسة و صدقا لمعرفة وطنهم و الارتباط به و الدفاع عنه و حمايته، ومن ثم نتساءل إلى أي مدى استطاع ابن باديس تجسيد هذه المفاهيم في نفسية الجزائريين؟ وكيف كون فيهم هذه المفاهيم حتى أصبحت قوة دافعة لوحدة الأمة، واندفاعا لتحرير ذاتها؟.
مفهوم الوطن في فكر ابن باديس:
كان الوطن عند ابن باديس من أهم المفاهيم قربا إلى وجدانه و قد اتخذه شعارا لمجلته “المنتقد” ((الحق فوق كل أحد و الوطن قبل كل شيء))، ورأى أن هذه الكلمة لها معاني دلالية و اصطلاحية ترتبط بمسائل طبيعية وأخرى اجتماعية، وأن كثيرا من أفراد الأمة يجهلونها، وجهلهم هذا أدى بهم إلى فقدانهم الإحساس و الشعور بها، و الوطن عنده هو: “قطعة من الأرض خلقها الله منها (الأمة) ومنحها لها، وإنها هي ربتها و صاحبة الحق الشرعي و الطبيعي فيها، سواء اعترف لها من اعترف أو جحده من جحد”(7).
فابن باديس ها هنا يعتبر أن الوطن إذا كان مكانا أو قطعة أرض ففضله عن الإنسان كبير لأنه هو منبت وجوده و مصير حياته، ولذلك فلا إنسان آخر غيره له الحق في العيش فيه و الحفاظ عليه، لأنه كما يقول الطهطاوي هو: “عيش الإنسان الذي درج فيه ومنه خرج و مجمع أسرته و مقطع سرته (8)، من هنا فإن لكلمة الوطن كما يصفها ابن باديس :”إذا رنت في الآذان حركت أوتار القلوب، وهزت النفس هزا”(9)، إن لهذه العبارات أبلغ تعبيرا عن الوطن، وعن مفهومه و الشعور به، فمن كثرة الشوق و الاشتياق إليه و العطف عنه شبهه بحركة أوتار تهز القلوب و النفوس.
إن هذا التعريف و الوصف الذي أعطاه ابن باديس للوطن لم يكن إلا الوطن الجزائري مفهوما واقعا، فكيف لنا اليوم لا نردد هذه الأنغام الوترية التي عبر بها رائد النهضة الوطنية عن هذا الوطن العزيز، وفي هذا السياق يحدد لنا ابن باديس درجات الوطن ضمن تسلسلها المعرفي في ثلاث درجات إذ: “لا يعرف و لا يحب الوطن الأكبر إلا من عرف واجب الوطن الكبير، ولا يعرف ولا يحب الوطن الكبير إلا من عرف واجب الوطن الصغير”(10)، ويقصد ابن باديس بهذه المفاهيم المختلفة للوطن، بأن الوطن الصغير و يقصد ابن باديس بهذه المفاهيم المختلفة للوطن، بأن الوطن الصغير هو “البيت”، و الوطن الكبير “الأمة”، و الوطن الأكبر “الإنسانية”(11)، هذه المعاني و المفاهيم المختلفة للوطن تتحقق و تنمو بمثل نمو حياة الإنسان عبر مراحلها المختلفة و التي من خلالها تتوسع مداركها و آفاقه.
وحسب المعارف الأولى للوطن تتشكل أربعة أقسام من الناس، قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة و هم الأنانيون، وقسم يعرفون وطنهم الكبير فيعلمون في سبيله كل ما يرون فيه خيره و نفعه ولو بإدخال الضرر و الشر على الأوطان الأخرى. وهؤلاء هم مصيبة البشرية جمعاء، وقسم آخر عاكس الطبيعة و زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر وأنكروا وطنيات الأمم الأخرى، و قسم رابع اعترف بهذه الوطنيات و نزلها منزلة عادية، و رتبها ترتيبها الطبيعي، وهذا الرابع هو الوطنية الإسلامية العادلة (12).
وكانت آراء ابن باديس حول الوطن سواء كمفهوم أو ممارسة قد استطاعت أن تجد طريقها إلى الشعب و تكون فيه تلك الروح الوطنية التي انبثقت عنها ثورته المباركة، وحول هذه المسألة يقول الأستاذ الدكتور عبد الله شريط إن: “قوة ابن باديس ليست فقط في أمانته في التعبير عن روح شعبه عند رده على فرحات عباس بأن الجزائر ليس فرنسا ولا تريد أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تكون فرنسا، وإنما كانت قوته في كون هذا الرد كان عمليا في حين بقي حكم فرحات عباس نظريا”(13).
إن هذا العمل الذي قام به ابن باديس و أعطاه للوطن و المواطن الجزائري الذي يعيش داخله، كان الهدف منه ترقية المسلم الجزائري الذي يعيش داخله، كان الهدف منه ترقية المسلم الجزائري في حدود إسلاميته التي هي حدود الكمال الإنساني، وحدود جزائرية التي يكون بها عضوا حيا عاملا في حقل العمران البشري، و حدود عروبته التي تمنحه مع الجزائرية و الإسلامية و الإنسانية الشخصية التاريخية الثقافية المميزة(14).
والتي تستطيع من خلالها الأمة الجزائرية التميز عن الأمة الفرنسية، لأن للأمة الجزائرية هوية خاصة “بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها و أخلاقها و في عنصرها و دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة”(15)،ولكن ابن باديس من جهة أخرى كان يقرب الوطن الجزائري من الوطن القومي و الإسلامي حيث قال: “نعم إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا، هي دائما منا على البال، و نحن فيما نعمل لوطننا الخاص، نعتقد أننا لا بد قد تكون قد أخدمناها و أوصلنا لها النفع و الخير عن طريق خدمتنا لوطننا الخاص”(16).
يظهر مما تقدم أن ابن باديس كان واضحا في تحديده لمعنى الوطن سواء كمعنى دلالي اصطلاحياً و كمعنى سياسي قانوني حديث، أي الذي له حدود قانونية معروفة و معترف بها –رغم أن هذه المسألة الأخيرة لم تكن شرطا له في وقته- ولا هي شرط في نفسية كل مواطن يعيش على هذه الأرض الطيبة ومن ثم يكون ابن باديس قد استطاع تحديد فكرة الوطن و دمجها بالدين، و هي من أهم و أدق المسائل التي توصل إليها الجزائريون في معركتهم النظرية الأولى مع الاستعمار الفرنسي، بل يعد اكتشافا عند الكثيرين منهم، ووعيا بشيء كان غامضا عن البعض الآخر(17).
وإدراك معنى الوطن لدى ساكنيه يعني بالضرورة إدراكهم لذواتهم التي لا شأن لها إلا به وفيه، فكما يقول ابن بادي: “فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه”(18)، و بهذه الأفكار و غيرها استطاع ابن باديس إعادة مفهوم الوطن إلى أذهان الجزائريين بعد أن أضحت معالمه غائرة و غير واضحة المعالم، و لا تجري على الألسن بمعناها الطبيعي و الاجتماعي (19)، فكان عندئذ تخليص هذا الوطن مما أبتلي به من مصائب و نكبات هو النقطة المركزية التي تمحورت حولها كافة جهوده و محاولاته الإصلاحية المتنوعة(20).
وقد تحقق لابن باديس ما أراد على يد إخوانه من المواطنين المخلصين الذين قاموا من بعده بالثورة المباركة، و يكون ذلك أول من حدد فكرة الوطن الجزائري في النصف الأول من القرن العشرين بعد أن ظنّت فرنسا، وظن الكثيرون معها أنها جعلت الجزائر مقاطعة فرنسية(21).
الوطن و الوطنية في فكر ابن باديس:
إن الحديث عن الوطنية يتحدد من خلال العلاقة الثنائية بين الأمة و الوطن، وهو حديث عن علاقة وجودية كينونية، إذ لا وجود لعنصر منهما دون الآخر، وأن هذه الحقيقة الكينونية لا يمكن أن يشك فيها أحد، إلا أن هناك إشكالية أساسية تمحورت أساسا في تحديد طبيعة العلاقة بين هذين العنصرين و تمثلت فيما يلي: هل يعني اتساع الوطن “المكان” وضيقه يحسب عدد سكانه؟ وبالتالي تنتهي حدوده بحيز الاستيطان و الاستغلال و الاستثمار؟ أم أنه يتحدد بمدى مدافعة الأمة عنه؟ وهل يعني كذلك أن وطن أمة ما ينتهي باستعمار أمة أخرى له؟ أم أنه استقرار و شعور لأية أمة يحدد هويتها ووجودها؟ ومن ثم يتجاوز معناه المادي؟
إن هذه التساؤلات وغيرها تبرز في مكنونها على أن هناك تلاحما و تشابكا بين الأمة و الوطن، وأن أي فرد من أفراد الأمة لا معنى له بدون هذين العنصرين (الأمة-الوطن)، فهما اللذان يختلفان هويته رغم أنه عاجز عن تحديد المكان الذي يوجد فيه ولا يعينه، إذ يوجد فيه بلا حرية ولأي اختيار، وكذلك بالنسبة للأمة التي يولد فيها و يكتسب منها هويته الثقافية و الحضارية، و يصبح من خلالها مدافعا و محافظا على وطنه و أمته بضرورة الوجود.
و البحث عندئذ في هذه المسألة يتعلق بالتساؤل التالي: هل يتسبب الفرد إلى وطنه؟ أم إلى أمته؟ أم لكليهما معا؟ لأنه هوية الكائن الإنساني التي تربطه بوطنه وبأمته تتجاوز حدود العلاقات التي ترتبط الكائنات الأخرى بعضها ببعض في إطار مكاني وجماعي، فالعلاقات التي تربط الإنسان بالإنسان هي علاقات فكرية معنوية أكثر مما هي حسبة مادية (22)، لأن الفرد يبذل الكثير في سبيل وطنه وأمته مما يحمله عنهما في تصورات معنوية تجريدية.
وفي تحديد العلاقة بين الأمة و الوطن التي تنشأ عنها “الوطنية” فإننا ننظر إليها من حيث إن حب الوطن “المكان” يتضمن بالضرورة حب المواطنين الذين ينتمون إلى هذا الوطن، كما أن حب الأمة يتضمن في الوقت نفسه حب الأرض التي يعيش عليها تلك الأمة (23)، وأن هذه المحبة المتبادلة بين الفرد وأمته ووطنه كما يراها ابن باديس هي غريزية و مكتسبة، إذا تنشأ مع الإنسان منذ طفولته لأن :”من نواميس الخليفة حب الذات للمحافظة على البقاء و في البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها هو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته، لما يرى من حاجاته إليهم و استمداد بقائه منهم، وما البيت إلا الوطن الصغير، فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه، وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه”(24).
إن المقصود بالوطن و بالأمة عند ابن باديس هنا، الوطن الجزائري و الأمة الجزائرية، فهو يشد بعظمتها و قوتهما و يريد بعثهما في التاريخ كما بعث الله “كمال أتاتورك” لأرض تركيا و أمتها، وإشادة ابن باديس به لا لأنه كان باعثا للخلافة الإسلامية، بل العكس من ذلك فقد كان أزلها و ألغاها إلى الأبد، وإنما أشد به لأنه استطاع أن يرفع من شأن الأمة التركية و يحررها من التدخلات الأجنبية، و جعلها قوة مهابة في وجه الدول الطامعة فيها، ولذلك كان ابن باديس يقول عن زعيمها :”فلو لم يخلق الله المعجزة على يد كمال لذهبت تركيا وذهب الشرق الإسلامي معها، ولكن كمالا الذي جمع تلك الفلول المبعثرة فالتف به إخوانه من أبناء تركيا البررة (…) و قاوم ذلك الخليفة الأسير و حكومته المتداعية، و شيوخه الدجالين من الداخل (…) و بهذا غير مجرى التاريخ (…) فكان بحق (…) من أعظم عباقرة الشرق أعظم عباقرة الشرق العظماء الذي أثروا في دين البشرية و دنياها من أقدم عصور التاريخ”(25).
إن هذا الثناء و المدح من ابن باديس على أتاتورك هو –كما قلت- أن هذا الأخير استطاع إزالة الخلافة لزائفة من جهة، ومن جهة أخرى وقوفه أمام العدو الاستعماري الذي كان عدو المسلمين أجمعين، و نعتقد أن هذه الفكرة الباديسية هي فكرة تستحق من جهتها الإشادة لأنها كانت مسايرة للعصر الذي عبرت عنه، فكان الوطن الحق في ذلك الوقت هو الوطن الذي تعيش فيه الأمة بمفردها و تستطيع حمايته و الدفاع عنه، بينما التظاهر بالأمة الإسلامية و دار الإسلام و الخلافة الإسلامية آنذاك كانت عبارة عن كلمات جوفاء غير مرتبطة بالواقع ولا بالدين، ومن ثم كما يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله أن ابن باديس و غيره من علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين استطاعوا بدعوتهم إلى التفسير الديني التقدمي للمصادر الإسلامية قد مهدوا الطريق أمام الوطنيين الآخرين من أجل الملائمة بين الوطنية في مفهومها الحديث، وبين الأفكار الدينية و الاجتماعية التي كانت غالبا ما اعتبرت في أماكن أخرى عقبات في طريق نجاح الوطنية(26).
وإذا كان الوطن هو القاعدة الأرضية التي تحيا فيها الأمة، فإن الوطنية الناشئة من خلالها هي وطنية عاجزة إذا انعدمت من دين أو عقيدة تنظيم جماهير الأمة ولا تعطيها أبعادها الحضارية، و الدين الذي لا يخدم هذه القاعدة الشعبية نفسها بالتربية العلمية هو دين محكوم عليه بالانعزال لأنه لا يعيش في سلوكات الناس و أفهامهم بل في الكتب و الآثار التاريخية(27).
فالوطنية التي كان يدعو إليها ابن باديس هي التي تكون فيها الشخصية الجزائرية متخلصة من التعصب و الانحراف متبعة كل القيم الإيجابية المستمدة من الدين الصحيح، إذ يقول :”نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها، فكانت سلاما على البشرية، لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته، ولكن يحب – والله- أن يخشاها الظالم لظلمه و الدجال لدجله و الخائن لخيانته”(28).
ومن هنا فإن كل نهضة وطنية صحيحة مستمدة من الدين هي التي تتعايش مع كل المجتمعات البشرية بجميع توجهاتها الدينية و الإيدلوجية، ولا تشكل خطرا عليها، بقدر ما تلتحم معها في الحياة الإنسانية المشتركة، و تخلق بين أبنائها وطنية حقة وهي التي كما يقول مصطفى كامل أشرف الروابط للأفراد، و الأساس المتين الذي تبني عليه الدول القوية و الممالك الشامخة(29).
إن الروابط الوطنية المتمثلة في جميع العناصر الموحدة للأفراد أمة ما، سواء كانت عرقية أو لغوية أو ثقافية أو حضارية فإنها لا تنافى مع عقيدة الأمة أو دينها، بل إن الدين و الوطنية توأمان متلازمان، وهذا ما تميزت به دعوة الإمام ابن باديس و حركته الفكرية الإصلاحية.
مقومات الأمة و دورها في وحدة الوطن و الوطنية:
لقد عالج ابن باديس مسألة أساسية في حياة الأمة الجزائرية العربية الإسلامية منذ أن حمل لواء الدفاع عن ماهيتها و استمراريتها، إذ اعتبر أم مواطنة الإنسان الحقة لا تعلو قيمتها، ولا يسمو شأنها إلا بمقدار احترام الإنسان لمقومات أمته، وقم قسم مقومات الأمة إلى مقومات جنسية قومية، و أخرى جنسية سياسية.
1- الجنسية القومية: إن مقومات أية أمة من الأمم هي جميع الخصائص و الصفات التي تكونها كأمة من جهة، و تميزها عن غيرها من الأمم من جهة أخرى، وأن الفرد في الأمة لا تعلو همته إلا بمقدار انتسابه لهذه المقومات، فلا يمكن أن يتظاهر مواطن ما بأنه أسمى من أمته و يتنصل منها معتبرا نفسه لا ينتمي إلى تاريخها و حضارتها خصوصا إذ كانت هذه الأمة في معاناة، وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجموع إذ أن: “الأمة التي لا تحترم مقوماتها من جنسها و لغتها ودينها و تاريخها لا تعد أمة بين الأمم”(30)، وأن تأكيد ابن باديس على أن ضرورة التمسك بمقومات الأمة راجع لما رآه عند البعض أثناء محاولتهم التعالي عليها (31) و المتصل منها، وقد كان يعتبر أن للأمة الجزائرية من المقومات ما جعلها تستمر في هذا التاريخ الطويل، رغم ما أصابها من كروب وآلام إلا أنها كانت من أشد الأمم حفاظا على مقوماتها و جنسيتها حيث يقول :”وبعد فنحن الأمة الجزائرية لنا جميع المقومات و المميزات لجنسيتها القومية وقد دلت تجارب الزمان و الأحوال على أننا من أشد الناس محافظة على هذه الجنسية القومية وأننا ما زدنا على الزمان إلا قوة فيها و تشبثنا بأهدابها وأنه من المستحيل إضعافنا فيها فضلا عن إدماجنا أو محونا”(32)..
و عليه فإن فكرة ابن باديس على أن فرض أية جنسية أخرى على أمة من الأمم فإنه لن يقود لشيء، وسيأتي اليوم الذي تحطم فيه الأمة تلك القيود وتكسرها لأنه ليست منه وليس منها(33)، وهذا ما حدث فعلا للأمة الجزائرية التي تخلصت من الجنسية التي حاولت الأمة الفرنسية فرضها عليها، وبالتالي صدقت تنبؤات ابن باديس وتصوراته، مما يجعلنا نقول أن فكره حق لأنه تجاوز زمنه إلى الزمن الذي تلاه.
وإذا كان ابن باديس يدعو إلى وحدة الجزائريين الوطنية بشخصية متميزة فإن ذلك لا يتحقق من وجهة نظره إلا على أساس حياة دينية صحيحة(34)، اعتمادا على نشر الإسلام الحقيقي وتوسيع نطاق التربية المستمدة من مبادئه وأحكامه، والجنسية القومية عندئذ لا تتجسد إلا بالانتماء للإسلام والعرب، وفي ذلك يقول ابن باديس: حق على كل من يدين بالإسلام ويهتدي بهدي القرآن أن يعتني بتاريخ العرب ومدنيتهم، وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام، وذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام ولعناية القرآن بهم ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام وما فيه من آداب وحكم وفضائل إلى أمم الأرض(35)، يتضح من هذا أن ابن باديس وإن كان يمجد العرب والقومية العربية فذلك لا يعني أنه يدعو إلى عنصرية عرقية قائمة على روابط الدم، بل أنه ينظر إلى العروبة على أنها وعاء الإسلام (36)والمسلمين، ولهذا وجب علينا الاعتزاز بأنفسنا كعرب، ونحن عندئذ بطبيعتنا لا نخضع للأجنبي في شيء من مقوماته(37).
إن ابن باديس لا يضع القومية العربية في إطارها العرقي بل يضعها في إطارها الحضاري والديني ومن ثم فإنها عنده لا تنفصل عن الإسلام بل مرتبطة به ارتباطا وثيقا(38)، وبذلك استطاع أن يسمو بها إلى أرفع معانيها لأنها فضلا عن رباطها الوطني المشترك تضم الرباط الروحي المتمثل في الإسلام وفي قيمه السمحة.
وإذا كان ابن باديس جمع مقومات الأمة في كل ما هو مشترك فذلك سيؤدي حتما بأية أمة من الأمم إلى حماية وطنها من كل ضيم وتعسف، وهذا ما استطاع خلقه في ذوات الجزائريين الوطنيين الذين حملوا لواء الثورة فيما بعد، وحرروا البلاد والعباد من قبضة الاستعمار الحديدية، وكانت بذلك القومية العربية التي دعا إليها طوق نجاة الجزائريين، وكانت السلاح الذي حقق نصرا خيل للكثيرين أن تحقيقه قد غدا أحد المستحيلات(39)، والحق يقال إنه كان بذلك أكثر واقعية وأصدق حدسا ممن أسهموا في تخطيط السياسة الجزائرية في عصره(40).
2- الجنسية السياسية: إن الجنسية السياسية هي مجموعة الحقوق والروابط التي تحدد العلاقة بين شعبين مختلفين في الجنسية القومية ضمن وحدة سياسية واحدة، فهي كما حددها ابن باديس: أن يكون لشعب ما لشعب آخر من حقوق مدنية واجتماعية وسياسية مثل ما كان عليه مثل ما على الآخر من واجبات اشتراكا في القيام لها لظروف ومصالح ربطت ما بينها(14)، إن ابن باديس ينطلق في فكرته هذه مما كان الاستعمار الفرنسي يريد فرضه على الأمة الجزائرية، أي أنه يطلب منها واجبات ولا يعطيها حقوقا لأن كلتا الأمتين لا تشتركان في الجنسية القومية، وعلى هذا الأساس فإنه من المستحيل بقاء الوضع كما هو عليه وإنما لا بدّ، إما أن يندمج أضعف الشعبين في أقواهما بانسلاخه من مقوماته ومميزاته فينعدم من الوجود، وإما أن يبقى الضعيف محافظا على مقوماته ومميزاته فيؤول أمره –ولا بد- إلى الانفصال(42).
وأن هذه هي الجنسية السياسية التي كانت بين الجزائريين وفرنسا أي أنهما من حيث المقومات القومية، ولذلك فإن الانفصال بينهما متحقق لا محالة، لأن الأمة الجزائرية لها من المقومات القومية ما يجعلها تستمر في الزمن بهذه الحالة ولا تذوب في الأمة الفرنسية وسيأتي اليوم الذي تنفصل عنها وهذا –ما تحقق فعلا فيما بعد- ومن ثم كان ابن باديس كما يقول الدكتور/ محمود قاسم: أنه كان رجل سياسة من طراز فريد في هذه الفترة الحرجة من تاريخ وطنه، وأنه كان أكثر واقعية وأصدق حدسا ممن أسهموا في تخطيط السياسة الجزائرية في عصره(43).
والسياسة التي كان ابن باديس يتنبأ بها لفرنسا هي أنها لا تستطيع ضم الجزائريين وإدماجهم في فرنسا، لأن العلاقة التي تربطهما هي علاقة غير طبيعية(44)، ومن ذلك فإن: كل محاولة لحمل الجزائريين على ترك جنسيتهم، أو لغتهم، أو دينهم، أو تاريخهم، أو شيء من مقوماتهم محاولة فاشلة مقضي عليها بالخيبة والواقع دل على هذا(45)، ألم تكن هذه الأفكار الصادقة والمتحققة من ابن باديس قد وضعته في مصاف أقطاب السياسية بل وعالم من علمائها؟ ألم يكن هو القائل أن لا نهضة للعلم ولا للدين إلا بالنهوض بالسياسة(46)؟ ومن ذلك كانت عنده السياسة والعلم لا ينفصلان، بل هما في حقيقة الأمر متلازمان متداخلان(47).
إن ابن باديس وإن كان قد تنبأ بمآل السياسة الفرنسية في الجزائرية ورأى حتما أنها زائلة، فإن مرد ذلك هو التناقض القائم بين الجنسيتين القومية والسياسية لكل أمة، حيث إن الوحدة بينهما لم تتحقق ولن تتحقق، لأن الأمة الفرنسية كانت تتمتع بجميع حقوقها، بينما الأمة الجزائرية لم تكن إلا مؤدية لواجبات ولم تكن لها حقوق أصلا، وما يمكننا عندئذ تأكيده عند ابن باديس بالنسبة لمقومات الأمة هو أنه اعتبر أن الجنسية القومية كمبدأ من مبادئ مقومات الأمة فإنها تبقى وتستمر ولا تضمحل، بينما الجنسية السياسية ما هي إلا مسألة ظرفية عابرة قابلة للتغير عبر الزمن(48).
وصفوة القول من كل ما تقدم أن فكر ابن باديس قد عرف طريقه إلى الممارسة والتطبيق، واستطاع كما يقول الدكتور/محمد عمارة أن يختلج ضمير الجزائر العربية المسلمة وأفرز الجناح المغربي لتيار التجديد العقلاني القومي المستنير(49)، ولذلك فإنه كان من أبرز ممثلي تيار التجديد والإصلاح السلفي العقلاني المستنير ببلاد المغرب العربي على الإطلاق(50)، وكان بذلك يعبر عن أصالة هذا المجتمع وأصالة فكره، لأنه لم يوجهه بأفكار غيره، ولم يعبر عنه إلا بما كانت تختلجه مشاعره وأحاسيسه، فكان بذلك فكره أصيلا أصالة صاحبه.
الهوامش:
1- للمزيد من الاطلاع حول هذه المسألة راجع: منذر معاليقي، معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية، دار اقرأ، بيروت، لبنان، ص 155 وما بعدها.
2- ابن منظور، لسان العرب، قدم له العلاقة الشيخ عبد الله العلايلي، دار الجيل، ودار لسان العرب، لبنان سنة 1988م مادة وطن، ج6، ص949.
3- الطهطاوي، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان 1972، ج1، ص343.
4- محمد عبده، الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان 1972، ص343.
5- المصدر نفسه، ص342.
6- المصدر نفسه، 344.
7- ابن باديس، ابن باديس حياته وآثاره، إعداد وتصنيف عمار الطالبي، دار مكتبة الشركة الجزائرية للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، الجزائر 1968م، ج4، ص365.
8- الطهطاوي، الأعمال الكاملة، ج2، ص.429.
9- ابن باديس، حياته وآثاره، ج4، ص 365.
10- المصدر نفسه، ج3، ص367.
11- حسن عبد الرحمن سلوادي، عبد الحميد بن باديس مفسرا، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988م، ص241.
12- ابن باديس، المصدر السابق، ص 367ــــ368.
13- عبد الله شريط، مشكلة الحكم الإسلامي في دولة الأمير ونظرية الشيخ ابن باديس، مجلة الثقافة، تصدرها وزارة الثقافة بالجزائر، العدد 75، جوان 1983م، 247.
14- المرجع نفسه، ص218.
15- ابن باديس، حياته وآثاره، ج3، ص283.
16- المصدر نفسه، ص236.
17- عبد الله شريط، مشكلة الحكم في دولة الأمير ونظرية الشيخ ابن باديس، ص 249.
18- ابن باديس، حياته وآثاره، ج3، ص468.
19- حسن عبد الرحمن سلوادي، ابن باديس مفسرا، ص211.
20- المرجع نفسه، ص 240.
21- محمود قاسم الإمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، دار المعارف بمصر، 1968م، ص67.
22- أبو خلدون ساطع الحصري، الأعمال القومية لساطع الحصري، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 1985م، ج3، ص 2632.
23- المرجع نفسه، نفس الصفحة.
24- ابن باديس ، حياته وأثاره . ج3 ، ص 468 .
25- المصدر نفسه ، ج 3 ، ص 214 .
26- أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية، بيروت، لبنان، 1969م،ص46.
27- عبد الله شّريط، مشكلة الحكم في دولة الأمير ونظرية الشيخ ابن باديس، ص248.
28- ابن باديس ، حياته وأثاره . ج3 ، ص557.
29- محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ص6 ، سنة 1983م،ص82.
30- ابن باديس ، حياته وأثاره . ج2 ، ص192.
31- كان ابن باديس يقصد هنا بالخصوص أصحاب التوجه التغريبي الذي يسلكه كثير ممن حملوا لواء الثقافة الفرنسية في ذلك الوقت وتأثروا بحضارتها، وليس المقصود بذلك من أتقنوا اللغة الفرنسية كما يبدوا البعض.
32- ابن باديس ، حياته وأثاره . ج3 ، ص352-353.
33- عبد الله شريط ، مشكلة الحكم في دولة الأمير ونظرية الشيخ ابن باديس، ص250.
34- ألبرت حوراني ، الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939)، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر بيروت، لبنان، ط3 ، سنة 1977م، ص 440.
35- ابن باديس ، تفسير ابن باديس ، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1991م، ص304.
36- حسن عبد الرحمن سلوادي، عبد الحميد ابن باديس مفسرا، ص236.
37- ابن باديس، تفسير ابن باديس، ص505.
38- حسن عبد الرحمن سلوادي، المرجع السابق، ص238.
39- محمد عمارة، العرب والتحدي، علم المعرفة، مجلة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1980م، ص283.
40- محمود قاسم ، الإمام عبد الحميد ابن باديس ، ص 79.
41- ابن باديس، حياته وآثاره، ج3، ص352.
42- المصدر نفسه، نفس الصفحة.
43- محمود قاسم ، الإمام عبد الحميد ابن باديس ، ص 79.
44- عبد الله شريط، مشكلة الحكم في دولة الأمير ونظرية الشيخ ابن باديس، ص 249.
45- ابن باديس، حياته وآثاره، ج3، ص355.
46- المصدر نفسه، ج4، ص 231.
47- حسن عبد الرحمن سلوادي، عبد الحميد بن باديس، ص 207.
48- الأمين شريك، الدولة والتنظيم الدستوري للسلطة السياسية في فكر ابن باديس، مجلة جامعة الأمير للعلوم الإسلامية، قسنطينة، العدد 4، رمضان 1413هــ ، مارس 1993م ص 213.
49- محمد عمارة، العرب والتحدي، ص280.
50- المرجع نفسه، ص 236.
مجلةالموافقات ، العدد السادس ، 1418 ه ، (1997 م )