الشيخ عبد الرحمن شيبان
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين السابق رحمه الله
قبل أن أتكلم عن دور الجمعية في ثورة التحرير المظفرة، أقدم نبذة مختصرة عن تاريخ الجمعية :
تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 05 ماي 1931، وهي جمعية وطنية ذات طابع ثقافي، إصلاحي، إسلامي، تربوي، واجتماعي، وهي بذلك عميد الجمعيات الوطنية، إذ تمثل بجدارة الاتجاه العربي الإسلامي ضمن الحركة الوطنية الجزائرية.
إن تأسيسها في التاريخ المذكور جاء ردا حاسما على ما قام به المستعمرون من احتفالات بمناسبة مرور مائة سنة على احتلال الجزائر، والتي أظهر فيها الاستعمار الفرنسي غطرسة واستفزازا لشعور الجزائريين، بما أقامه من استعراضات عسكرية في أكبر المدن الجزائرية، حضرها، بالخصوص، رئيس الجمهورية الفرنسي آنذاك ليؤكد أن الجزائر قد صارت فرنسية وجزءا لا يتجزأ من فرنسا، وأن الإسلام قد تم القضاء عليه، وأن اللغة الفرنسية هي لغة الجزائر.
في هذا الجو نشأت الجمعية بشعارها : الجزائر وطننا، والإسلام ديننا، والعربية لغتنا، وكان أول رئيس للجمعية الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.
فعبّ جهودها في ميدان التربية والتعليم بإنشاء المدارس الحرة التي تعلم مبادئ الدين الإسلامي واللغة العربية، وقد عمت هذه المدارس جميع أرجاء الوطن رغم ما كان يعترضها من متاعب متمثلة في غلقها بدون سبب وسجن معلميها، وقد ظلت الجمعية تطالب الحكومة الفرنسية برفع يدها عن الإسلام وتتركه حرا بين أيدي أبنائه بتحرير المساجد وأوقاف المسلمين، وذلك على نحو ما عليه الديانة المسيحية واليهودية.
ورغم أن فرنسا كانت تردد باستمرار بأن الجزائر هي أرض فرنسية إلا أن الجمعية كان لها موقف واضح من هذا الزعم الفرنسي تبينه بوضوح مقولة الإمام المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس : “إن الجزائر ليست فرنسا ولا تريد أن تكون فرنسا ولا تستطيع أن تكون فرنسا ولو أرادت “.
وعندما التحق الإمام ابن باديس بالرفيق الأعلى في 16 أفريل 1940 خلفه على رئاسة الجمعية رفيقه في الكفاح والنضال الإمام محمد البشير الإبراهيمي الذي كان في هذه الفترة منفيا في مدينة آفلو (ولاية البيض حاليا) في إطار حملة قامت بها فرنسا سنة 1939 بالزج بالزعماء والمناضلين، في السجون والمنافي، ولم يطلق سراحهم إلا بنزول الحلفاء بالجزائر في نوفمبر 1942، فأعاد الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي للجمعية نشاطها، واستأنفت رسالتها تربي في المدرسة والمسجد والنادي والصحافة.
وما كادت الحياة السياسية والثقافية والدينية تدب في الجزائر بإنشاء حركة أحباب البيان التي كانت تطالب باستقلال الجزائر وحريتها بعد نزول الحلفاء بالجزائر، في نوفمبر 1942، حتى حدثت مجازر 08 ماي 1945 والتي زُجَّ أثناءها بأعضاء الجمعية ومناضليها في السجون والمنافي مع سائر المناضلين في الحركة الوطنية، وقد صاحب ذلك تشريد للمعلمين وإغلاق للمدارس والنوادي وحَظر أي نشاط ثقافيا كان أو سياسيا أو دينيا مع ما صاحب ذلك من قمع وتقتيل وتشريد شمل جميع نواحي الشرق الجزائري ومناطق أخرى في الغرب الجزائري.
واستمر هذا الوضع المؤلم الفظيع ما يزيد عن سنة ونصف، وما كاد ينجلي هذا الليل الحالك ويسرح الناجون من الموت، حتى استأنفت الجمعية نشاطها بكل همة وحزم، ولم يَفُتَّ في عضدها ما عانته من ويلات إرهاب العدو، ففتحت المدارس من جديد وراحت المساجد تبث الوعي الديني والوطني في قلوب المؤمنين معمقة في نفوسهم حب الوطن، وبغض العدو، وانتعاش الأمل، ونفس الشيء قامت به النوادي التي عاد إليها شبابها يستمعون إلى محاضرات مشايخ الجمعية بما أوتوا من فصاحة وقدرة على التبليغ، وعادت البصائر لسان حال الجمعية للصدور تؤدي رسالة التوعية وتقارع الاستعمار وأذنابه بالمقالات المتميزة بقلم الإمام الشيخ البشير الإبراهيمي ورفاقه الميامين، وكنت من بين كتابها آنذاك.
كما توجت هذه النشاطات بحدث عظيم استبشرت الأمة به خيرا وهو افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1947 بوصفه فرعا من فروع جامع الزيتونة في تونس، فكان لهذا المعهد أثره العظيم إذ تخرج منه العديد من الأساتذة والمعلمين.
ولكي يتم توثيق الروابط بين الجزائر وأشقائها في المشرق العربي والإسلامي، ولكي يفسح المجال للطلبة الجزائريين المتخرجين من المعهد ومن الزيتونة لمواصلة دراستهم في الجامعات والكليات بمختلف أنواعها، توجه الإمام البشير الإبراهيمي إلى بلدان المشرق العربي والإسلامي حيث لقي ترحيبا وتقديرا منقطع النظير، فأصبح عضوا في مجمع اللغة العربية، وتمكن خلال إقامته هناك من إقناع الجامعات العربية والإسلامية أن تفتح أبوابها للطلبة الجزائريين، وتمكينا لهذه الوضعية، فتحت الجمعية مكتبا لها في القاهرة، للتعريف بالقضية الجزائرية، وجلب المؤيدين والأنصار لها، وقد أشرف على المكتب العالم والمجاهد البارز المرحوم الشيخ الفضيل الورتلاني، الذي ما فتئ يقلق أساطين الاستعمار منذ التحاقه بالقاهرة سنة 1945. إذ ما كاد يحل بها حتى عبّأ الأشقاء في مصر لنصرة كفاح الجزائر، وجعل الجامعة العربية توجه مذكرة استنكار واحتجاج لفرنسا على مجازر 8 ماي 1945.
جمعية العلماء وثورة التحرير المجيدة :
من المعلوم أن جمعية العلماء كانت إلى جانب مهمتها في التربية الدينية والثقافية وتغلغلها في أوساط الشعب، تطالب دائما وبإلحاح من الإدارة الاستعمارية الجاثمة على الدين الإسلامي بتحرير المسـاجد والأوقـاف والقضاء الإسـلامي وترسيم اللغة العربية.
وبما أن هذه المطالب قد واجهت آذانا صماء، لا تريد الاعتراف بالحق لأصحابه، وهو أمر ليس غريبا من عدو جاء ليجرد الشعب الجزائري من جميع مقوماته : من دين ولغة، ليتمكن في النهاية من تدميره، ومحقه ككيان مستقل له هويته، لقد أدى هذا الموقف المعتمد من الحكومة الفرنسية إلى أن أصدر مكتبها بلاغا في 18 جوان 1945 أعلن فيه : » أن الأمة قد يئست من الحكومة ومن المجلس الجزائري المدلس، ومن عدالة الدولة في هذه القضية، وأن المحاولات العديدة التي حاولتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قصد الوصول إلى حل موفق معقول لهذا المشكل لم تأت بنتيجة… والمكتب يعتقد على ضوء الحوادث، وقياسا على كل ما وقع أن هذه القضية الدينية لا تجد لها حلا عادلا إلا ضمن حل كامل للقضية الجزائرية التي هي وحدة لا تتجزأ، وأن الأمة الجزائرية يجب عليها في الساعة الحاضرة وفي مستقبل الأيام أن تتوجه بكليتها لمحاولة حل قضيتها العامة، حلا عادلا يتناسب مع التطور العالمي الحديث «.
وقد سبق للإمام عبد الحميد بن باديس سنة 1936 مخاطيا للشباب الجزائري في نشيده المشهور :
شَعْبُ الجَزَائِري مُسْلِمٌ وَإلَى الْعُروبَةِ يَنْتَسِبْ
إلى أن دعا إلى إعلان الحرب على الظالمين ومحاربتهم في قوله :
وَأذقْ نُفوسَ الظَّالمِيـــنَ السُّمَّ يُمْزَجُ بِالرَّهَبْ
وندد بالخائنين :
وَأقْلَعْ جُذورَ الخائِنيـــنَ فَمنهُمْ كُلَّ العَطَبْ
واستنهض الهمم :
واهزُزْ نُفوسَ الجامدِيــنَ فَربَّمَا حَيّ الخَشَبْ
وقد سلكت هذا السبيل في مقال نشر بالبصائر في العدد 36 السلسلة الثانية سنة 1948 تحت عنوان : » الإسلام شريعة الجهاد والاجتهاد « أكدت فيه (.. أن الجهاد لا يقوم إلا على حرية، وتلك الحرية لا يجلبها إلا الجهاد… إذ أنه في ترك الجهاد تمكين للاضطهاد، والاستعباد، كما أن في إبطـال الاجتهـاد تقتيلا للمواهب يعقبه تعطيل للشريعة نفسها).
ولما اندلعت ثورة التحرير المظفرة، نشر الشيخ الفضيل الورتلاني رئيس مكتب الجمعية بالقاهرة بلاغا في 02 نوفمبر 1954 أعلن فيه تأييد الجمعية للثورة، ودعا فيه الشعب الجزائري لخوض معركة الجهاد التي يفرضها عليه دينه وماضيه وكرامته.
ومن جهة أخرى وجه المرحوم الشيخ الفضيل الورتيلاني :
أولا : نداء إلى الحكومة الفرنسية والشعب الفرنسي منددا فيه بسياسة فرنسا التي تعمى عن الحقائق وتتنكر لمطالب الشعب الجزائري.
ثانيا : نداء إلى أبناء المغرب العربي يدعوهم إلى الاتحاد وتدعيم الصفوف وتأييد الثورة الجزائرية.
ثالثا : نداء إلى الشعوب العربية والإسلامية يدعوهم إلى نجدة إخوانهم الجزائريين وتدعيمهم ماديا ومعنويا ودبلوماسيا.
وفي 15 نوفمبر 1954 وجه كل من الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ الفضيل الورتلاني نداء للشعب الجزائري يذكِّرَانِهِ فيه بمساوئ الاستعمار الفرنسي في الجزائر ويحثانه على خوض معركة الكفاح المسلح دون تردد، ودائما في إطار تعبئة الشعب الجزائري لنصرة ثورته والعمل على دحر عدوه، تم في القاهرة في 17 فبراير 1955، التوقيع على ميثاق جبهة التحرير الوطني من قبل: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتيلاني, وأحمد مزغنة، ومحمد خيضر، وحسين آيت أحمد ومحمد يزيد والشاذلي المكي، وحسين لحول، وأحمد بن بلة، وأحمد بيوض أعلنوا فيه:
» أن المنظمات والأحزاب في الجزائر تشكل كتلة واحدة وجبهة في معركة التحرير والكفاح المسلح للشعب الجزائري ضد العدو المحتل وذلك بجميع الوسائل «.
وقد انخرط أعضاء الجمعية في الخارج جنبا إلى جنب مع إخوانهم، أما في الداخل فما إن اندلعت الثورة حتى راح طلبة معهد ابن باديس يلتحقون بصفوف الجهاد باذلين الأرواح الزكية من أجل الوطن، بينما أساتذة المعهد ومعلمو المدارس الحرة قد انخرطوا في الخلايا السرية لجبهة التحرير الوطني، وفي صفوف جيش التحرير.
ومن بين الشهداء العلماء نذكر الإمام الشيخ العربي التبسي رئيس الجمعية بالنيابة واليمين العمودي الأمين العام السابق للجمعية ورضا حوحو الكاتب العام لمعهد ابن باديس ومحمد العدوي والشاعرين عبد الكريم العقون والربيع بوشامة والشيخ العربي الشريف وغيرهم كثيرون بذلوا دماء سخية في سبيل حرية الجزائر وكرامتها واستعادة هويتها العربية الإسلامية كاملة غير منقوصة.
وهكذا فإن الجمعية قد أدت مهمتها التي فرضها الله والوطن عليها في الإطار العام للحركة الوطنية الجزائرية قبل الثورة المسلحة وأثناءها، وهي الآن ما زالت قائمة تواصل رسالتها نحو الإسلام الهادي إلى سواء السبيل في كل عصر وفي كل مصر.
والله ولي التوفيق
ــــــــــــــــــ
*مقال منشور في مجلة بونة للبحوث والدراسات – العدد الثاني – رمضان 1425 هـ/تشرين الثاني 2004 م