الخميس 8 رمضان 1444ﻫ 30-3-2023م
الرئيسية / حوارات / حوار شامل مع الأستاذ الدكتور أبوالقاسم سعدالله “الجزء الثاني”

حوار شامل مع الأستاذ الدكتور أبوالقاسم سعدالله “الجزء الثاني”

مؤرخ يكتب عن مسيرة و ليس عن سلطة، عن قضية شعب و ليس عن نزوات حاكم، يبحث عن الخلود في مواقفه المستقلة و آرائه الصادقة.
مؤرخ يستمد طاقته الضوئية من نور الحكمة و البصيرة، لكنه إنسان قبل كل شيئ، يتأثر بما حوله من بيئة و أسرة و تطورات علمية و سلطة و إعلام و تقاليد…
و رغم هذا التأثر بما حوله، فقد كتب بعيدا عن السلطة التي لا يشعر أنه مدين لها بشيء، فالمؤرخ ـ كما يقول ـ كلما ابتعد عن المطمع كلما شعر بالحرية، و كتب ما يمليه عليه الضمير و الحقيقة..
يصدح برأيه في القضايا التي طرحناها عليه بصراحة المثقف الذي لم يدخل بيت الطاعة، فهو يرى من موقعه كأستاذ جامعي أن المقاييس العلمية و الأخلاقية و المهنية قد انعدمت في الجامعة، و لم تعد المؤهلات شرطا، و كرامة التقاليد الجامعية وسيلة، فاختلط الحابل بالنابل و أصبح المعيد أستاذا، و حامل الماجستير دكتورا، و رئيس المؤسسة الجامعية لم يمارس التدريس بالمرة، و لا يعرف كيف يكتب بحثا، فبقيت الجامعات الجزائرية  تكرر نفس التخصصات و تشرب من المياه الراكدة..
و من موقعه كمراقب للأحداث و كاتب مقالات، يرى أن فساد الجامعة لا يمكن فصله عن الفساد العام، ذلك أنه حتى جيل الثورة الذي قام بواجبه المقدس و هو تحرير الوطن، جذبته الحياة بمغرياتها و تخلى بعضه عن المبادئ التي كان يكافح من أجلها، و سلم الراية لمن لا يستحقها و لا يعرف قدرها، و تسامح مع من خانوا الثورة، و الخائن كما يقول، ليس هو الذي يبيع وطنه فقط، و لكنه قد يكون الذي يتخلى عن قضيته أو يكيد لمن يعمل لصالح هذه القضية.
الدكتور سعد الله لا يرى الفساد مستشريا في مؤسسات النخبة العلمية و السياسية فحسب، بل يعتقد أن الجزائري غير مؤمن بنفسه و بدوره الإيجابي، فهو مسحوق في اللغة و مسحوق في الدين و جاهل بما حوله.
يقول لي: انظر ماذا يجري عندنا اليوم: إننا نعتز بأشياء غيرنا، نعتز بلغة الفرنسيين، و ندعي معرفة الحضارة الأوربية على حساب حضارتنا، إننا لا نثق في أنفسنا، ندعي الوطنية و لا نتمسك بمبادئها، و ندعي الثورية و لا نأخذ بلوازمها، نعتز بالجزائر و لكننا نسعى للخروج منها و نشبعها كل حين سبا و لعنا..
هذه بعض آرائه و مواقفه في الجزء الأول من الحوار، و في هذا الجزء لا يقل صراحة في آرائه و صرامة في مواقفه..

عرف عنكم عدم المجاملة في قول الحقيقة التاريخية، و قد فعلتم ذلك، حيث قلتم عن أهل سوف إنهم إما هاربون أو منفيون، و هذا ما رأى فيه البعض تشكيكا في تاريخ أهل المنطقة، ألم يجلب لكم هذا نقمة ذوي القربى؟
لعلك تشير إلى ما نقلته عن الشيخ العدواني ( و هو من سوف )حين قال إن سوف “مانعة الهارب”، و هو بالطبع يقصد الهاربين إليها من ظلم الحكام و قسوة الطبيعة و جور الزمان. و سوف هي موطن قبائل طرود و عدوان و سعود الهلالية و السليمية (من بني سليم) . و قد انضافت إليهم أقوام جاؤوا من الغرب (تيهرت و فاس و تلمسان…) فاختلفوا و تزاحموا على المراعي و الماء، و دافعوا عن أنفسهم ضد بايات تونس و بايات قسنطينة الذين لا يعرفونهم إلا عند جباية الضرائب.
بالعكس، إن أهل سوف كانوا ينشدون الحرية، ألا ترى أن الإنسان هناك في رحلة دائمة بحثا عن حريته في تدبير معاشه و ممارسة شعائره. و في القرن السادس عشرأصبحت أمريكا هي ” مانعة الهارب ” في نظر المضطهدين الأوربيين أيام ما عرف بثورة “الإصلاح الديني” و ما تلاه من هجرة و هروب بالعقيدة و الروح. و أذكر أنني قضيت سنوات الثمانينات صيفا في سوف رغم الحرارة و الجفاف من جميع النواحي، فكدت أقضي عجبا و دهشة، بلاد في ركن مجهول من خارطة الجزائر، أهلها يعيشون العيشة التي كان أجدادهم يعيشونها أثناء الاستعمار الفرنسي، و قد عشتها معهم في كلتا الحالتين و وصفتها وصفا أثار عجب البعض و لم يصدقوا أن ذلك ممكن الحدوث في العصر الحاضر، و ربما رأى البعض في ذلك الوصف مبالغة لا ضرورة لها.

من الشائع عندنا أن البربر قد قاوموا العرب مقاومة شديدة أيام الفتح الإسلامي. و قد روج لهذه الفكرة الجهلة من المؤرخين الأولين و تناقلها الرواة بدون تساؤل أو تمحيص كما تقولون. فأين الحقيقة التاريخية؟
هناك حقيقة يجب أن نعيها أولا و هي أن البربر لم تكن لهم دولة خاصة بهم عندما حل بينهم الفاتحون المسلمون. فالفرس كانت لهم دولة و الروم كانت لهم دولة، و قد فتح المسلمون بلاد فارس و أسقطوا نظام الكياسرة، و اصطدموا ببلاد الروم و أسقطوا نظام الروم في الشام و مصر، و كانت بلاد البربر امتدادا لهذا النظام الرومي البيزنطي. فلم يستول الفاتحون المسلمون على عاصمة الروم (بيزنطة)، و لكنهم استولوا على أجزاء من دولتها. وصل الفاتحون إلى بلاد المغرب من مصر التي كانت إقليما من أقاليم بيزنطة. فمن الناحية الاستراتيجية لا يمكن أن يستتب الأمن في مصر و دولة الروم قائمة في بلاد البربر و في أناضوليا. لذلك كان من المنطق التاريخي متابعة الفتح أو تتبع الوجود الرومي القائم غربي مصر لتأمين فتح مصر.
و الحقيقة الثانية أن البربر كأقباط مصر، لم يكونوا كلهم على موقف واحد إزاء المسلمين و لا إزاء الروم. فمنهم من كان ساخطا على الحكم البيزنطي فاستقبل الفاتحين المسلمين بحفاوة و ترحيب، و منهم من كان حليفا للروم في الدين و الدنيا فوقف مع الروم ضد المسلمين. و المعارك التي دارت من بني غازي إلى طنجة كانت في الواقع بين الأسطول الرومي (البيزنطي) و بين الحاميات الإسلامية في الثغور الليبية و التونسية، لذلك تحملت المدن الساحلية و بعض المدن الداخلية العبء الأكبر في الدفاعات البيزنطية ، بينما لم تشهد البراري و الأرياف حيث البربر معارك كثيرة بينهم و بين المسلمين . و ما حدث بعد سقوط النظام البيزنطي في بلاد البربر كان بين قيادات محلية (مدعومة من البيزنطيين المنهزمين) و بين قادة الفتح الإسلامي، و ليس بين نظام سياسي و سلطة دولة و بين الفاتحين المسلمين. و عندما انتهت انتهى دور القيادات المحلية و انتهت معها المقاومة و دخل البربر في دين الله أفواجا..و تولوا هم قيادة الجيوش الإسلامية و أصبحوا من الفاتحين الشجعان، و لأمر ما لم يتعرض كسيلة للمسلمين الذين بقوا تحت سلطته سنوات، و لأمر ما أكرمت الكاهنة المسلمين الذين وجدتهم في صفوفها.
الحقيقة الثالثة وجود فراغ نتيجة عوامل تغيير في بنية الدولة الإسلامية، من ذلك بعد بلاد البربر عن مركز الخلافة الذي كان في المدينة المنورة ثم دمشق، و كون والي مصر البعيد عن الأحداث هو الذي كان حاكم بلاد البربر أثناء و بعد الفتح لفترة غير قصيرة، و عدم استقرار الخلافة بعد الخلاف الذي حدث بين علي و معاوية و قبل استتباب الأمر لمعاوية… و معنى ذلك أن الجيش الإسلامي كان منشغلا بما كان يحدث شرقي وادي النيل، بينما تركطت شؤون بلاد المغرب إلى والي مصر من جهة و إلى قادة غير مدعومين وجدوا أنفسهم في بلاد بعيدة ما زالت تحت التأثير البيزنطي. فما يقال عن مقاومة البربر للإسلام و العرب قول مردود بالحقائق التي ذكرناها. و قد بالغ في ذلك الفرنسيون و الجهلة بمسيرة الفتح من المسلمين حتى جعلوا من” الحبة قبة” كما يقولون، و ما زال هؤلاء الجهلة من المسلمين موجودين إلى اليوم حتى في أقسام التاريخ بالجامعات و في المدارس الثانوية و عند بعض مؤلفينا و ساستنا.

تقولون إن البربر ليسوا جنسا أو أمة خاصة و أن العبارة في حد ذاتها لا تعني شرفا يعتزون به و لا حضارة ينتمون إليها، بل تعني الضعة و المرتبة الدنيا بالقياس إلى الرومان الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ممتازين . فما هي الشواهد و الحقائق التاريخية التي أسستم عليها حكمكم و دعوتكم؟
تقاس الأمم بمساهمتها في الحضارة الإنسانية، فالحكومات تأتي و تذهب، و الدول تنهض و تسقط، و لكن الحضارة تبقى خالدة حتى بعد سقوط الحكومات و الدول. فهؤلاء الهنود و قدماء المصريين و الصينيين و الفرس و الإغريق أمم ذات حضارة رغم أنها أمم سادت ثم بادت في أغلبها. و هي أمم معاصرة لظهور الإسلام ، و المؤرخون الذين تحدثوا عن البربر كابن خلدون تحدثوا عن حجمهم و مجالهم الجغرافي و قوتهم الحربية، و لم يتحدثوا عن حضارتهم و تراثهم الفكري و العلمي. و كان العرب قبل الإسلام يشبهون البربر لعدم تأسيسهم لدولة واحدة و تموقعهم في فضاء جغرافي واحد. و لولا الكعبة المشرفة و رسالة الإسلام الباهرة لما كان العرب يختلفون عن البربر في المكانة التاريخية بين الأمم. و ربما لولا الإسلام لما كان للبربر مكان اليوم، فهو الذي حررهم من ربقة الشعوب التي استغلتهم (الرومان، الوندال، البيزنطيون) ، و الإسلام هو الذي اندمج البربر في حضارته العربية الإسلامية حتى أصبحوا أكثر اعتزازا بها من أهلها كما فعل بربر الأندلس و مراكش و فاس و القيروان و تلمسان و بجاية.
لقد تخلص الألمان من صفة (البربار) التي كان يطلقها عليهم الرومان، و أنشأوا حضارة ألمانية في ظل المسيحية، كما تخلص البربر من هذه الصفة و أنشأوا ممالكهم الإسلامية ذات الثقافة العربية بدون عقدة في ظل الإسلام الذي دافعوا عنه أكثر ربما مما دافعت عنه الشعوب الإسلامية الأخرى، فالغربيون يتكلمون عن “مقاومة” البربر للإسلام و لكنهم يتغاضون عن شدة دفاع البربرعنه بعد أن آمنوا به. و ربما لا يشبه البربري في هذا الدفاع عن الإسلام إلا الأتراك الذين كانوا أيضا قبائل بدوية غازية فاعتنقت الإسلام و أصبحت من أقوى المدافعين عنه، و هو العامل الذي وحد أيضا بين البربر و الأتراك في الدفاع عن الإسلام أيام الجهاد البحري في البحر الأبيض المتوسط.

بنو هلال همجيون و وحشيون و جراد أكل الأخضر و اليابس، خربوا العمران و ارتكبوا المجازر و شوهوا الإسلام، كما هو شائع، هل هذه أساطير أم حقائق تاريخية؟
حركة بني هلال نحو الغرب الإسلامي (أو تغريبة بني هلال كما أطلق عليها في القصص الشعبي) يجب دراستها في إطار الصراع السياسي ـ المذهبي في ذلك الوقت، فهم قبائل بدوية انتقلت من الحجاز إلى مصر أغراها الفاطميون في مصر بخصومهم في بلاد المغرب “لخيانتهم” بتخليهم عن المذهب الفاطمي و عودتهم إلى المذهب السني. فالهدف المذهبي و الانتقام السياسي واضح في العملية. ثم إن بني هلال لم يكونوا غزاة بالمعنى الديني، و إن لأهل الاقتصاد ما يقولون في هجرتهم المكثفة أو تغريبتهم و في وقعها على المهاجر و المهاجر إليه. و لعلماء الاجتماع ما يقولون أيضا في هذا الموضوع. و لكن الثابت أن عدد المهاجرين من بني هلال غير معروف، و أنهم هاجروا بعائلاتهم و أثقالهم مما جعل حركنهم بطيئة. و قد تلقت مدن ليبيا دفعتهم الأولى، و كان سيرهم البطيء قد أثر عليهم و على من نزلوا عليهم. فقد عانت عائلاتهم من الجوع و المرض و مات الكثير منهم أثناء الطريق، و لعلهم كانوا سببا في موت الآخرين أيضا، و هي عملية ليست شاذة في التاريخ، و لعل آخرها هجرة الباكستانيين من الهند و هجرة الأتراك من اليونان و بلغاريا، و هجرة البوسنيين من بلاد الصرب. ثم تلقت المدن التونسية الموجة الثانية من بني هلال، و هي مدن (القيروان ، المهدية…) كانت الطبقة الدينية و الغنية تترسخ فيها بحيث أصبح هناك مجتمع حضري حريصا على مصالحه المادية، فكان أهله يرون في هجرة هذه القبائل البدوية خطرا على مصالحهم. و من الملاحظ أن بني هلال لم يدخلوا المدن هكذا دفعة واحدة بل أن قافلتهم طويلة الذيل. فكان الوصول إلى المدن و أماكن العمران قد أخذ وقتا طويلا لبعد المسافة، و كلما تقدم الركب نحو الغرب تخلفت منه جموع في ليبيا و في الأراضي التونسية الأخرى إلخ…
و مما يذكر أن بني هلال بقدر ما كانوا سببا في الإضرار بأهل الحضر بقدر ما أفادوا أهل السياسة في تونس و الجزائر و المغرب لأن هؤلاء كانوا يشكلون إمارات متنافسة و رأوا في فرسان بني هلال الحلفاء المناسبين لهم. خصوصا و هم من أهل السنة مثلهم ، كما رأى بنو هلال في ذلك التنافس فرصة لهم في دخول معترك الحياة على أرض الواقع. فتحالف كل أمير مع فرع من بني هلال و انتصروا بهم على خصومهم، فأصبح بنو هلال جزءا من النسيج الاجتماعي و السياسي و الثقافي لإمارات شمال إفريقيا عندئذ.
و آخر ملاحظة نذكرها بهذا الصدد أن أول الكتاب عن تغريبة بني هلال هذه كانوا من حضر المدن و من العلماء و الفقهاء الناقمين على زعزعة الأحوال بعد استقرارها على إثر خروج الفاطميين من شمال إفريقيا إلى مصر. و يبدو أن ابن خلدون قد روى ما رواه أهل الحضرعن بني هلال لأنه كان مقتنعا بنظريته الجديدة و هي تغلب البدوي على الحضري، كما أخذ المتأخرون عنه هذه النظرية و لا سيما الفرنسيون بدون مساءلة. إن مسألة الهجرة الهلالية تحتاج إلى أكثر من بحث منصف من أهل الاختصاص ، و لا تكفي فيها هذه السطور المستعجلة.
يجب النظر إذن في قصة بني هلال قديما ضمن الصراع السياسي ـ المذهبي من جهة ، و حديثا ضمن الصراع الاستعماري ـ الوطني من جهة أخرى. و لم تكن تغريبتهم هجمة تأديبية مفاجئة ثم تراجعت، بل إن أخبار قدومهم سبقتهم سنوات عديدة من مسافات بعيدة، و بقدر ما كانوا ربما غلاظا في سلوكهم المدني بقدر ما عززوا بوجودهم المذهب السني و ثبتوا أقدام اللغة العربية و نصروا حلفاءهم أمراء الممالك الإسلامية في المنطقة. و من ثمة يمكن القول إن بلاد المغرب الإسلامي اليوم مدينة في حضارتها لبني هلال بالشيء الكثير، و ربما يجد سخط بعض المؤرخين على بني هلال تفسيره في هذا الإسهام الذي أسهموا به في ترسيخ الحضارة العربية الإسلامية في المنطقة.

العهد العثماني امتاز بالعنف الدموي و بالفوضى و انتشار الرشوة و الظلم و الفساد. و العثمانيون بهذا أشبه بالفرنسيين حسب النتائج التي توصلتم إليها في كتابتكم لتاريخ هذه الحقبة. فهل تعتبرون الحكم العثماني في الجزائر استعمارا؟
العثمانيون مسلمون مثلهم مثل الجزائريين، و هم من أهل السنة و يتبعون المذهب الحنفي في أغلبهم ، كما ينتمون إلى الحضارة العربية الإسلامية الشرقية التي ينتمي إليها معظم المسلمين في زمنهم، و سلطانهم هو سلطان كل المسلمين (عدا الشيعة الصفوية) ، و خليفة على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم. و قد تصاهر الجزائريون مع العثمانيين و اندمجت أسر كثيرة من الطرفين حتى كونت نسيجا اجتماعيا واحدا، و ساد مذهبهم الحنفي في طبقة مولَدة (الكراغلة) منهم حتى أصبحوا يؤلفون فئة اجتماعية متميزة و “وطنية” حاولت أن تستولي على السلطة و أن تؤسس لمجتمع جزائري جديد و لكنها فشلت. و كان العثمانيون في المستوى الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي لا يكادون يختلفون عن الجزائريين، لأنهم جميعا كانوا يعيشون حالة التخلف التي كان العالم الإسلامي كله يعاني منها عندئذ بالمقارنة مع المجتمعات الأوربية الناهضة. و من ثمة فإن العثمانيين لم يكونوا “مستعمرين” كالفرنسيين ، فهؤلاء اعتدوا على شعب و احتلوا بلادا و أسقطوا نظاما سياسيا قائما، و استولوا على ثروات الجزائر و تشريد شعبها بالحروب الإبادية المتوالية في معظم الأحيان. و من اعتداءات الفرنسيين انتزاع الأرض من أصحابها و إعطاؤها إلى مهاجرين غرباء نزحوا من قارة أخرى و مثلوا حضارة أخرى، و هي العملية المعروفة في التاريخ بـ “الاستيطان”.
نعم هناك بعض التصرفات التي قد يتفق فيها العثمانيون مع الفرنسيين ، و منها إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية ثم في العهد الفرنسي بالدولة الفرنسية، و تولي حكم البلاد في كلتا الحالتين من قبل حكام غرباء عنها (باستثناء قلة من الباشوات و البايات في العهد العثماني)، و التعالي على أهل البلاد، و لكن العثمانيين لم ينتزعوا الأراضي من أصحابها و لم يقوموا بحركة توطين على حساب أهل البلاد، و لم يفرضوا على السكان مذهبا و لا لغة و لا ثقافة معينة ، بل أسهموا مع أهل البلاد في بناء المدارس و المساجد و الزوايا و توفير الأوقاف للشؤون العلمية و الدينية و الاجتماعية. و قد تركوا اللغة العربية هي السائدة في التعليم و التأليف و الثقافة العامة. و انضم الكثير منهم إلى الطرق الصوفية المشهورة في وقتهم. و لعل أبرز ما تتجلى فيه العلاقة بين الجزائريين و العثمانيين هو الاشتراك في الجهاد البري و البحري ضد الغارات الأوربية المتكررة على السواحل الجزائرية و مدنها.أما الفرنسيون فقد عملوا على اقتلاع جذور الثقافة العربية الإسلامية و إحلال ثقافتهم محلها، و استرجاع الكنيسة الكاثوليكية و ترك الجزائريين في حالة تخلف مقصود بينما العالم يعيش عهدا جديدا من التطور و التقدم.
هناك مواقف للعثمانيين يظهر فيها استعمالهم للعنف. و قد وجد لهم المؤرخون مبررات في الثورات التي كانت تقوم بها قبائل الرعية و التمرد العسكري و ارتكاب بعض الجرائم. و لكن ذلك قد يكون راجعا إلى ثقافة الإنسان العثماني “التركي” عموما، و هو في الأصل فلاح من أناضوليا عاش حياة قاسية و ورث طبيعة الغزو و الغلبة، و هو إنسان مقطوع عن أهله و أرضه، و ربما هو جاهل بحقيقة الإسلام و طبائع الشعوب الأخرى. و كلمة “عثماني” يجب تحديدها، ذلك أن كل من كان يعترف بالسلطان و ينضوي تحت لواء الإنكشارية أو لواء رياس البحر، فهو “عثماني” سواء جاء من أناضوليا أو من البلقان أو من غرب أوربا، أو من المشرق العربي. و الجزائريون أنفسهم كانوا “عثمانيين” بهذا المفهوم ، أي من رعايا السلطان و “أبنائه”. أما إذا كان المقصود الأتراك فهم جنس خاص منحدر من سلالة قبيلة نازحة من أوساط آسيا و غرب الصين إلى ما هو تركيا حاليا تقريبا. فيجب عدم الخلط بين تعبير الأتراك و تعبير العثمانيين. و قد كان حكام الجزائرعثمانيين ينتمون في أصولهم إلى أعراق مختلفة و ليسوا أتراكا ينتمون إلى قبيلة نازحة من أوساط آسيا.

تساءلتم هل يصح أن نطلق على العهد العثماني “عهد الانحطاط الثقافي” و نحن نطرح عليكم نفس السؤال؟
السؤال ما يزال مطروحا، و قد سبق بعض مؤرخي الأدب العربي في المشرق فحكموا على العصر العثماني بأنه عصر الانحطاط الثقافي، و هم يقصدون بذلك الثقافة العربية الإسلامية طبعا، و قد حمَلوا العثمانيين عواقب التخلف الذي عانت منه الأمة الإسلامية، و الأدب العربي على الخصوص. بالنسبة للجزائر نجد العصر الفرنسي هو عصر الانحطاط الحقيقي لثقافتنا الوطنية. فبينما كانت أوربا، و منها فرنسا، تتمتع بالتقدم العلمي و التقني و الازدهار الحضاري، و بينما أخذت بوادر النهضة تظهر في المشرق العربي على يد المصلحين المعروفين في القرن التاسع عشر، دخلت الجزائر مرحلة الغيبوبة الثقافية لأن الاستعمار الفرنسي رفع شعار التجهيل و التفقير و المحاصرة السياسية و الفكرية للإنسان الجزائري . و لولا القبس الذي أضاءه ابن باديس و رفاقه باسم الإصلاح لاستمرت غيبوبة الجزائر و ربما فقدت هويتها الحضارية .

و هذا في الواقع يقودنا إلى السؤال التالي: تكاد الجزائر تخلو من الأمية عند بداية الاحتلال الفرنسي ، و تكاد تخلو من المتعلمين عند الاستقلال، أليس هذا ما أسماه الرئيس الإبادة اللغوية؟
لقد استغرب قادة الحملة الفرنسية ثم من جاء بعدهم من الدارسين (أليكسيس دي طوكفيل، و مارسيل إيمريث مثلا) من انتشار التعليم في الجزائر العثمانية، و هو التعليم الذي سبق القول بأنه كان يشترك فيه المجتمع  و الدولة معا و يتغذى من معين الأوقاف. لقد كانت الأمية عشية الاحتلال تكاد تكون منعدمة بين الرجال خلافا لما كان عليه الحال في فرنسا.أما بعد الاستقلال فقد سادت الأمية نتيجة هجرة العلماء و التحاق الطلبة بالمقاومة و تحويل سلطة الاحتلال المدارس و المساجد إلى أماكن تخدم الدولة الفرنسية (كنائس، اسطبلات، مستشفيات عسكرية، سكنات، مقرات لجمعيات دينية مهاجرة، التخلص منها بهدمها…) و الأدهى من كل ذلك هو استيلاء سلطة الاحتلال على الأوقاف الإسلامية التي كانت المورد الأساسي للتعليم و ما يتصل به.
و هناك ملاحظة لا بد من إبدائها هنا و هي أن انعدام الأمية في الجزائر لا يعني “التقدم العلمي” فيها، فالعقلية الأوربية مثلا قد تطورت منذ عصر النهضة و أصبحت ناقدة و فاعلة و متحررة، بينما العقلية العربية ظلت راكدة و كاسدة لا تتحرك إلا في فلك الدراسات التقليدية (حفظ القرآن الكريم، العقائد، و دراسة مبادئ اللغة، و الفقه، و بعض الحساب و الفلك…) بدون نقد و لا حرية فكرية و لا تجديد.و ذلك هو الفرق بين كثرة المتعلمين عندنا و قلة المتعلمين عند الفرنسيين.
بقي أن نشير إلى مسألة إبادة اللغة أو تدمير الهوية. لقد تناولنا هذا الموضوع في كتاباتنا عدة مرات. و قد سبقنا إليه الوطنيون في كل جيل وعملوا على مقاومة هذه الإبادة و هذا التدمير كل في مجاله. و من الأسف أننا نحن الجيل الحاضر نعترف بما حدث لهويتنا ـ بما فيها اللغة ـ و ننعى باللائمة على الاستعمار. و لكننا الآن نفعل مثله أو أكثر منه في تدمير هويتنا بأنفسنا، فنحن نخرب هويتنا بأيدينا لا بأيدي الاستعمار، و ما دخل الاستعمار اليوم حين يتحدى تجار العاصمة أجدادهم و مواطنيهن فيكتبون لهم عناويم محلاتهم التجارية بالفرنسية فقط و بالحروف الغليظة و المزوقة و اللافتة للنظر. أليس ذلك تحطيما للهوية؟ أليس هو الانسلاخ عن الذات؟ ثم ما دخل الاستعمار حين يتكلم المسؤولون باللغة الفرنسية و يهملون لغتهم الرسمية، و يفرضون على المواطنين التعامل بالأوراق الإدارية المحررة باللغة الفرنسية وحدها، بل و يفرنسون حتى ما سبق تعريبه من الأوراق؟ أليس في ذلك ردَة شنيعة و تدمير لهويتنا بأيدينا؟ و سيقول التاريخ ذات يوم إنه لا العثمانيون و لا الفرنسيون ارتكبوا ضدنا هذه الفعلة المشينة في حق الوطنية و الهوية.

رغم أن الكتاب لم يقارنوا بين غزو التتار لبغداد و غزو الفرنسيين للجزائر.. و رغم قولكم نحن أيضا لن يكون هدفنا عقد المقارنة، “إلا أن قولكم” إذا وجد القراء أو وجد شبه بين ما حدث هنا و هناك فنرجو ألا تقشعر جلودهم أو تصفر وجوههم، يعني أن أوجه التشابة موجودة و مرعبة. فهل تعني بذلك الجرائم الكبرى لفرنسا في الجزائر و التي يضعها البعض في خانة الجرائم في حق الإنسانية، و إن لم تكن هذه فما هي أوجه التشابه المرعبة؟
نشرت حديثا مقالة بعنوان (الجريمة و العقاب) عن بعض جرائم فرنسا في حق الجزائر.و لم أذكر إلا القليل من الكثير لنرد فقط على دعاة تمجيد الاستعمار، سواء كانوا فرنسيين أو اندماجيين جزائريين. إن التتار لم يلبثوا في بغداد إلا كما تلبث العاصفة، لقد مروا من هناك فخلفوا ما يخلفه الإعصار من دمار، ثم نبتت الحياة بعدهم و زهت بغداد من جديد. أما إعصار الاحتلال الفرنسي فقد استمر قرنا و ربعا، و هو إعصار يمثل في حياتنا مرحلة من الهول و الدمار الشامل للإنسان و الأرض و الحضارة. و في بطء حركة الاستعمار حدثت تجريفات و أخاديد لا تزول بسهولة، و في سرعة حركته آلام و جراح طالما أنَت منها الأيتام و الثكالى و قلوب المبعدين عن الأهل و الولد و الوطن، أولئك الذين قضوا حياتهم في “غوانتنامو” الفرنسية دون أن يسمع أحد صراخهم أو يحس أحد بأشواق قلوبهم إلى الحرية. إن هناك أوجها للمقارنة بين مرور التتار بالعراق و مرور الاستعمار الفرنسي بالجزائر، و لكننا نخشى أن يظهر من يدافع عن الاستعمار الفرنسي لبلادهم بدعوى أن التتار قوم آسيويون متوحشون أما الفرنسيون فقوم أوربيون متحضرون.

قلتم كثيرا ما سألني السائلون عن سبب عدم كتابة تاريخ الثورة، فكنت أسارع بالإجابة : و متى كتبنا تاريخنا حتى لم يبق إلا تاريخ الثورة، و السؤال هل بدأتم كتابة تاريخ الثورة بعد كتابتكم لتاريخ الحركة الوطنية، و تاريخ الجزائر الثقافي؟
التاريخ يجب أن يكتب من مسافة زمنية معقولة أي بعد انقراض الجيل الذي صنع أحداثه، و كلما ابتعدت المسافة كلما توفر التفسير الموضوعي و معالجة الأحداث ببرودة علمية.  أما إذا اقتربت المسافة فإن حرارة العاطفة هي التي ستطغى و تعطي للأحداث تفسيرا غير موضوعي يكون عادة خاضعا لنزوات الأشخاص الدين صنعوا الأحداث، فهم جميعا يعتقدون أنهم هم صانعو الحدث و أن الآخرين غائبون عنه أو ثانويون فيه.
و من ثم كنت أعتقد أن تاريخ الثورة ما يزال غير جاهز لتناوله في الكتابات التاريخية الأكاديمية. نعم يمكن تسجيله في شهادات فردية و تناوله في روايات أدبية و أحاديث صحفية… بل يمكن أن يكتب في شكل رسمي بطريقة ترصد الأحداث و المراحل الكبرى للثورة و مسيرة النضال الشعبي دون الدخول في التفاصيل كإضفاء الألقاب على الأبطال و التنويه بدور جهة دون أخرى و إبراز فضائل حزب دون حزب أخر. و في هذا المعنى كتبت أحيانا عن حدث تاريخي في شكله الجماعي، و لكني لا أزعم أني كنت أكتب – حين كتبت- تاريخ الثورة.  أما جمع المادة التاريخية و الحصول على الوثائق و الشهادات فهذا من واجبي كمواطن عاش الثورة و امتهن البحث في التاريخ .

تساءلتم سنة 1987 في أية مرحلة نحن؟ هل نحن في مرحلة القبلية و من ثمة نكتب أو نحاول أن نكتب تاريخا قبليا، و أجبتم،  يبدو من كل المؤشرات أننا كذلك، فنحن قبليون في تفكيرنا و سلوكاتنا و كتاباتنا، فهل نحن كذلك بعد عقدين من الزمن من طرحكم السؤال ؟
لدي شعور تدعمه الشواهد و المعايشة و هو أن الجزائري يمر بمرحلة اكتشاف الذاتـ  فهو لم يدرس تاريخ الجزائر الشامل، و لا تاريخ العرب و الإسلام  ولا تاريخ العالم، و تكاد معلومات الجيل الحاكم ألان عن التاريخ تنحصر فيها درسه أو سمعه عن تاريخ فرنسا و بعض رموزها في السياسة و الحروب و الآداب و الفنون،  و بعض أعلامها الجغرافية. و ها هو الآن يكشف نفسه دون أن يشعر أنه ينتمي إلى وطن صغير اسمه الجزائر لا إلى إقليم اسمه المغرب العربي أو الشرق الأوسط، و لا إلى أمة إسلامية مترامية الأطراف و كثيرة السكان كانت ذات يوم تشكل الدولة الأعظم في العالم.
و بدل اهتمام الجزائري بما في وطنه من وحدة و تنوع و من ثورة و قوة أخد يهتم بعرشه (وعشيرته) و قريته و مدينته  ظانا أن ذلك هو مجاله و فلكه. و أن أهله هم قبيلته و ليس مواطنيه في القطر الجزائري كله. هذه “المحلية” الضيقة نتج عنها جهل أو تجاهل للآخرين. و التقوقع الداني و الاعتزاز بماضي عائلي أو قبلي لا قيمة له في ميزان الأمجاد و البطولات و الحضارات، و إنما هو موضوع يصلح للدراسات الأنثروبولوجية  التي تهتم بانكفاء الإنسان على نفسه و مدى استجابته او رفضه للتطور الحضاري من حوله .
و الخلاصة أننا مازلنا في مرحلة القبلية و ليس ذلك مقصورا على الفرد العادي بل نجده مع الأسف عند المسؤولين و النواب و الأساتذة و الأطباء و من في حكمهم ممن يفترض فيهم أنهم تجاوزوا مرحلة القبلية إلى مرحلة الجماعية و منها إلى الأمة. و الأمثلة على ذلك صارخة و هي تظهر في أحاديثنا و تصرفاتنا و انتماءاتنا و بالأخص حين يتولى الواحد منا المسؤولية .

تقولون نحن إلى الآن لا نملك تاريخا لثقافتنا يحدد معالمها و يكشف عن قيمتها و يضبط علاقتنا بها  هل تعتقدون أن هذا ما جعل الجزائريين ممزقين في هويتهم؟
قبل أن أجيبك عن هدا السؤال: هل رأيت مسؤولا في مستوى وزير أو نائب أو زعيم حزب أو من في مقامهم يتحدث للشعب و هو يستشهد بوقائع تاريخ أمته، أخذا العبرة من أقوال و أعمال و أراء قادة الفكرو السياسية و الحرب في بلاده و من حضارته؟ إن أقصى ما يصل إليه أصحابنا من الاستشهاد و ضرب الأمثلة هو حكايات من مسيرة الحركة الوطنية. أو من وقائع التاريخ الفرنسي، أو ما قد يكون  صرح به أحد القادة الفرنسيين في زمن الثورة التحريرية. أما مآثر أبطال الجزائر و أبطال العرب و الإسلام في المدى الزمني الطويل فلا نكاد نسمع أحدا منهم يأتي عليها. كيف، و الحال كذلك، يستطيع مسؤول أن يؤثر في شعبه و يسهم في ترسيخ هوية قومه؟
و مع دلك فإن عذرية العقيدة الشعبية في الهوية لم تصب بأذى و الحمد لله، صحيح أنها ما تزال غير متطورة طبقا للمفاهيم المعاصرة و غير مدعومة بالشواهد الحية و لكنها هي المادة الخام التي ظلت في “الحفظ و الصون”  رغم زعازع الشك و قواصم التشكيك. من مثل:  لا ندري من نحن..( دون تعليق المتكلم)،  او القول بأن الاستعمار دمر هويتنا (دون تعليقه أيضا).
و قد قلت مرارا إن الحركة الوطنية وجدت طريقها إلى الهوية دون تردد. و إن قادة المقاومة و خامات الشعب كانوا يدركون من هم، و لذلك قاموا بكل ما أوتو من قوة دفاعا عن هويتهم، و لولا ذلك الرصيد القوي في عقيدة الهوية لذابت الجزائر في غيرها كما يذوب الملح في الماء.

أجرى الحوار بشير حمادي

المصدر: جريدة الحقائق الأسبوعية العدد21 الصادر في 17 مارس 2007

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *