سافرت لطلب العلم دون علم أهلي
نهلت من معين الطاهر بن عاشور وأحمد بيرم
كان أول خروجي من القنطرة لهذا الغرض سنة (1335هـ ـ 1915م) والحرب العالمية الأولى قائمة، خرجت إلى مكان يسمى “مركونة” وهو ضيعة (مزرعة كبيرة) يملكها الشيخ محمود ابن عبد الصمد وإخوته، فقد طلب الشيخ محمود المذكور من والدتي بواسطة ابن أختها ابن حفيظ الطيب، أن تسمح له بأخذ أحد أولاد شيخه ـ والدي ـ ليضمه إلى من يقرأون القرآن عنده من أولاده وأولاد إخوته
فسافرت لذلك الغرض صحبة أخي الذي هو أكبر مني ـ أحمد العرافي “رحمه الله في التاريخ المذكور بعد جذاذ التمر، وبقيت فيها نحو تسعة شهور، أقرأ مع أولادهم، والمعلم إذ ذاك الشيخ المنور ـ من ناحية سطيف على ما سمعت ـ ومركونة هذه تبعد عن باتنة بنحو 15 كلم في طريق خنشلة، وبينها وبين “تازولت” 5 كلم، وفي الصيف رجعت إلى القنطرة، لأنني لم أستطع تحمل الإقامة هناك لأسباب جوهرية في حياة الإنسان ومعيشته، وفي خريف (1335هـ 1916م) سافرت مع أخي الكبير، الشيخ الأمين، إلى بلدة “سيدي عقبة” ولما أوصلني إلى “سيدي عقبة” وفي رجوعه إلى القنطرة، وجد الطريق معطلا بسبب انتفاضة شعبية وقعت في مركز حكم بلدتنا ـ عين التوتة ـ نوفمبر 1916 ـ فتعطل عدة أيام ثم أذن له بالسفر، وهو إذ ذاك مازال يواصل دراسته في جامع الزيتونة بتونس، والبلدة سميت باسم الفاتح العظيم والمجاهد الكبير (عقبة بن نافع الفهري)، قائد حملة الفتح الإسلام لهذا القطر، وقد استشهد قريبا منها رحمة الله عليه ورضوانه، وتبعد البلدة المذكورة عن مدينة “بسكرة” بنحو 18 كلم، وكانت معيشتي عند السيد بلقاسم بن الحيرش، وهذه العائلة صديقة لعائلتنا من قديم، فكل إخوتي الذين قرأوا القرآن في سيدي عقبة، كانت إقامتهم ومعيشتهم عند هذه العائلة، وذلك جريا على عادة أهل الصحراء، الذين يعينون طلبة القرآن على حفظه بأن يكفوهم مؤونة العيش ليتفرغوا للقراءة فقط، والقراءة تكون في النصف الأخير من فصل الخريف وكامل فصل الشتاء وبعض فصل الربيع فقط نظرا لشدة الحر فيها، فقرأت فيها سنتين، وكان الذي يصحح لي قراءتي ولوحي: الرجل الصالح الخيّر التقي الشيخ الهاشمي بن المبارك رحمه الله، وكانت المدة التي قضيتها فيها تترواح ما بين سنتي ( 1335 ـ 1337هـ و1916 ـ 1918م) ثم انتقلت إلى بلدة “طولقة” لنفس الغرض، إلى زاوية الشيخ علي بن عمر رحمه الله، وشيخ الزاوية في ذلك الوقت هو الشيخ عمر ابن الشيخ علي بن عثمان رحمهم الله جميعا، وفي نفس هذه الزاوية قرأ والدي وإخوتي، وبلدة “طولقة تبعد عن مدينة بسكرة بنحو 45 كلم، وكانت قراءتي في زاوية الشيخ علي بن عمر المشهورة في تلك النواحي نحو سنتي (1338هـ 1339) (1919 ـ 1920م) وكما هي العادة في الصحراء لا قراءة في زمن الحر، فحفظت القرآن فيها، وفي فصل الصيف رجعت إلى القنطرة، فوجدت أخي الشيخ الأمين قد عاد من تونس بعد أن أنهى دراسته في جامع “الزيتونة”، ونال منه شهادة “العالمية التطويع”، فبقيت فيها سنة اشتغلت فيها بشيء من التجارة مع أخي أحمد العرافي، وثم رغب مني الأشيب الوقور السيد محمد بن المبارك رمضان ـ رحمه الله ـ أن أتولى تعليم القرآن للصبيان في كتاب جامع أولاد “أبي الليل” المعروف بجامع “البلالة”، وكان المشرف عليه، على عادة أهل جهتنا الذين يخصصون حجرة في كل مسجد لتعليم الصبيان القرآن العظيم وتحفيظه، ويكون المعلم في نفس الوقت إماما للمسجد في الصلوات الخمس، كما يصلي التراويح بالناس في شهر رمضان، فقرأت فيه القرآن سنة واحدة، بجد ونشاط، وظهر أثر ذلك على كثير من التلاميذ، فحفظوا ثمن الرحمن حفظا جيدا مع استظهاره من غير مصحف، وتلك المدة تتراوح ما بين (1340 – 1341هـ 1921 – 1922م) وذلك على حسب السنة الدراسية التي تبتدئ في سنة وتنتهي في سنة أخرى، وبعد انتهاء السنة، دعاني داعي الرغبة في التعلم، فتاقت نفسي للعلم والدراسة كوالدي وأخي رحمهما الله، فكانت:
رحلتي لطلب العلم:
وبعد أن عاد الشيخ الأمين من تونس يحمل شهادة “التطويع” من جامع الزيتونة ـ فيها ـ كما قلت فيما سبق، ولما شرع في تعليم التلاميذ والعامة في القنطرة، عزمت أنا على الالتحاق بـ (جامع “الزيتونة” في تونس) لأدرس فيه كمدرس أخي، أما والدي فقد درس العلم في بلدة “نفطة” بوطن الجريد في الجنوب التونسي، درس عن العالم المشهور في زمانة الشيخ (المدني بن عزوز) العالم الفذ، عم الشيخ “المكي” بن عزوز العالم الذائع الصيت، رحمهم الله جميعا، وكانت مدة دراسته خمس سنوات، من (1276هـ 1284 ـ الموافق لـ1863 ـ 1868م) حسبما كتبه هو بخط يده، وقد ترك رحلته مكتوبة بخط يده، وربما أذكرها فيما بعد إن شاء الله.
ولما عزمت على السفر إلى تونس لم أخبر أحدا من أهلي ـ لا والدتي ولا إخوتي ـ بما عزمت عليه، فتوكلت على الله وفارقت القنطرة في آخر ربيع الآخر (سنة 1341 هـ نوفمبر 1922م) فالتحقت بتونس للدراسة في جامع الزيتونة ذي الشهرة الواسعة، وخاصة في الشمال الإفريقي، وانتظمت في سلك طلبته بمجرد وصولي من غير تأخير، لأن الدراسة قد ابتدأت من شهرين، وذلك في جمادى الأولى 1341هـ الموافق لشهر ديسمبر 1922، وبقيت دراستي مستمرة ودائمة وبدون انقطاع أو تأخر، ودون إعادة ولا استمرار مدة سبع سنوات متتالية، وهي المدة اللازمة لإتمام برنامج الدراسة النظامية، ولما أتممت هذه المدة المطلوبة من كل طالب اتبع طريق الدراسة النظامية، تقدمت إلى المشاركة في الامتحان النهائي لنيل الشهادة الوحيدة في ذلك الزمان، والمسماة بشهادة “التطويع”، فتقدمت للامتحان ونلتها، حسبما هو مسجل في “دفتري”، إذ النظام يقضي بأن يتخذ كل طالب اتبع الدراسة النظامية “دفترا” خاصا بجامع الزيتونة، تسجل فيه دروس الطالب التي يزاولها فيه، وفي آخر كل شهر قمري، يتقدم الطالب بدفتر إلى شيوخه الذين استمرت قراءته عليهم في ذلك الشهر، فيكتبون له في صلبه شهادة بأن الطالب صاحب هذا الدفتر، زاول دروسه في هذا الشهر بدون انقطاع، ثم يمضي الشيخ على ما شهد به، وفي آخر السنة الدراسية، وبعد امتحان انتقالي من تلك السنة التي كان فيها إلى السنة التي تليها، يسجل فيه الشيخ أو الشيوخ الممتحنون للطالب نتيجة ذلك الامتحان، على حسب ما رأوه في ذلك الطالب من التأهل لقراءة السنة التي تليها، أو يعد السنة التي كان فيها، وتسمى هذه الإعادة “استمرارا”، فتكون نتيجة امتحانه هذا إما انتقاله لسنة التي بعد السنة التي كان فيها، أو رسوبه وإعادته للسنة التي كان فيها، وفي آخر السنوات السبع المطلوبة من الطالب أن يقضيها في الدراسة، تؤلف لجنة من كبار الشيوخ لتتصفح دفاتر الطلبة الراغبين في المشاركة في الامتحان لنيل شهادة “التطويع”، فمن وجدته تلك اللجنة قد أتم دراسته القانونية بنظامها، كتبت له في دفتره عبارة ( قبل دفتره)، فيسمح له بالمشاركة في الامتحان، ومن كانت دراسته ناقصة ودفتره (غير مقبول) يؤجل إلى الدورة الأخرى في السنة المقبلة، حتى يُتم دراسته القانونية.
وبناء على هذا النظام المتبع، تقدمت مع رفاقي وزملائي للمشاركة في الامتحان، وكانت البداية في شهري ذي الحجة ـ جوان من سنتي 1347هـ 1929م، والنهاية كانت في شهري محرم 1348هـ جويلية 1929م، والامتحان المذكور يشتمل على المواد التالية:
أ ـ موضوع كتابي في الفقه يسمى “المقالة”، ومنه يظهر إنشاء الطالب وقدرته على سبك الكلام، وفهمه للموضوع وربط الجمل بعضها ببعض، وتخريج المسائل من النصوص الفقهية إلخ، وموضوع تلك السنة كان في “الإجارة” وكل الطلبة كتبوا فيه على حسب استعدادهم وتحصيلهم ومقدرتهم.
ب ـ إلقاء درس أمام لجنة الامتحان، ومن حضر من الشيوخ والطلبة، ويُطالب به الطالب الذي قبل موضوعه الكتابي “المقالة”، وموضوع الدرس يختلف بين الطلبة، وذلك بحسب القرعة، أو البطاقة التي يتناولها الطالب بيده من صندوق وضعت فيه عدة مواضيع في عدة فنون علمية، مما درسه الطالب في الكلية الزيتونية، بين فقه، وأصول ونحو، وبلاغة، وصرف، الخ ما يدرسه الطالب، وكان موضوع درسي أنا في النحو في باب “أفعل التفضيل”.
جـ ـ أسئلة توجه إلى الطالب من طرف أعضاء لجنة الامتحان الأربعة ـ وهذا لمن قبل درسه ـ في اليوم الموالي ليوم الدرس، ويتنقل الطالب ين أعضاء لجنة الامتحان، فكل شيخ يسأل الطالب في مادة معينة، فإذا نجح الطالب في الموضوع الكتابي تقدم إلى ما بعده بحسب الترتيب كما تقدم ذكره، وإذا لم ينجح فيه تأخر وأجل إلى دورة السنة المقبلة، مع التزامه بالاستمرار في الدراسة من غير انقطاع طوال هذه السنة، وعندما ينجح الطالب نهائيا عند إحرازه على شهادة “التطويع”، تكتب له هذه الشهادة في صلب “دفتره”، وهو الدفتر الذي كانت تسجل فيه دروسه التي كان يزاولها أيام الدراسة، وفي آخر الشهادة إمضاءات الشيوخ أعضاء لجنة الامتحان، وهذه هي الشهادة التي ينالها الطالب من جامع “الزيتونة”، وهذا نصها كما هو مسجل في “دفتري” (الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، أما بعد فإن النبيه المشارك الشيخ السيد عبد اللطيف بن علي القنطري، ممن تقدم لأداء امتحان التطويع في العلوم في عام 1347 – 1929 الفارط بالجامع الأعظم جامع الزيتونة ـ أدام الله عمرانه ـ على مقتضى القرار الوزيري الصادر في ذلك، فكانت نتيجة النظر فيما أتى به من فصول امتحانه إحرازه على رتبة التطويع في العلوم، ليتصدى بذلك للنفع وزيادة التحصيل، والله تعالى يهديه إلى سواء السبيل. وكتب في 26 ربيع الثاني في أكتوبر عام 1348 ـ 1929 وبعد التاريخ إمضاءات الشيوخ: أحمد بيرم، محمد الطاهر بن عاشور، محمد رضوان، صالح المالقي) ووظيفتهم على التوالي شيخ الإسلام الحنفي، شيخ الإسلام المالكي، القاضي الحنفي، القاضي المالكي، وهؤلاء الأربعة هم أعضاء المجلس الشرعي، وهو المجلس الأعلى الذي يرجع إليه النظر في كل شؤون التعليم بجامع الزيتونة، وهذا المجلس كان في زماننا يسمى بـ(النظارة العلمية)، وشهادتي تحمل إمضاءات الشيوخ المذكورين آنفا، وهم أعضاء لجنة الامتحان، في الدورة التي مررت بها، وقد ماتوا كلهم رحمهم الله تعالى، والملاحظ في الاعتبار أن المذهبين: الحنفي والمالكي هما فقط المذهبان الموجودان في تونس، ولهذا تقسم الوظائف بينهما بالتساوي، بالرغم من أن الكثرة الكثيرة من السكان التونسيين هم مالكيو المذهب، غير أن الأولوية المذكورة في الذكر والتقديم تعطى دائما للحنفي، لأن أمير البلاد ـ الباي ـ حنفي المذهب، لأنه من أصل تركي، وفيما يلي أسجل هنا الموضوعَ الكتابي الذي شاركت فيه في امتحاني المذكور، وكان الموضوع في “الإجارة” وهذا هو: (ومازلت محتفظا بالورقة التي كتبت عليها الموضوع، وتحمل طابع جامع الزيتونة والنظارة العلمية)…
يتبع
جريدة الشروق 2011.08.02
الشيخ عبد اللطيف سلطاني