دعاني الشيخ ابن باديس للالتحاق بركب جمعية العلماء المسلمين.. فلبيت النداء
الإجارة
الحمد لله جل شأنا وقدرا، ذي النعم العظيمة التي لا يحصيها العادون، ولو بلغوا ما بلغوا فيها ذكرا، الذي جعل لكل عمل من الأعمال ثوابا وأجرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ورسوله الأمين القائل: أنا سيد ولد آدم ولا فخرا، وعلى آله وصحابته الذين آووه ونصروه على تبليغ ما تحمل به، وكانوا له أزرا، الذين تركوا لنا أعمالهم ذخرا، فأعظم به ذخرا، وكل من نسج على منوالهم إلى يوم الدين.
وبعد، فأقول وعلى الله أتوكل، يطلق أهل اللغة العربية لفظ العنوان أعلاه على الأجر والثواب، وهو مشتق منه، وهمزها مكسورة وقد تُضم، قال الجوهري: الأجر الثواب، يقال: أجَره الله أجرا من باب ضرب ودخل، وآجره بالمد إيجارا مثله.
أما في الشرع، فقد عرفها القفهاء رضي الله عنهم بتعاريف، كل بما ظهر له ورآه موافقا للنصوص الفقهية، وننتقي من بين أولئك الفطاحل الذين عرفوها – إلا أن منهم من أقل فأخل، ومنهم من أكثر فأمل – ما نراه حاويا لمعناها شاملا لمبناها ولما به الحاجة من مسائلها، وإذا طلبنا مثل هذا فلا نجده إلا في تعريف الشيخ الإمام ابن عرفة رحمه الله تعالى وجميع المسلمين، قال رحمه الله: (الإجارة بيع منفعة ما أمكن نقله، غير سفينة ولا حيوان لا يعقل، بعوض غير ناشئ عنها، بعضه يتبعض بتبعيضها). اهـ. وللتعريف مخرجات لا بأس إذا أتينا عليها، أما قوله “بيع منفعة” فأخرج به بيع الذوات، وقوله “ما أمكن نقله” خرج به كراء الدور والأرضين ونحوهما، وقوله “غير سفينة” أخرج به كراء السفن، وقوله “ولا حيوان لا يعقل” أخرج به كراء الرواحل، وقوله “بعوض غير ناشئ عنها” يخرج القراض والشركة وما إلى ذلك، وقوله “بعضه يتبعض بتبعيضها” يخرج الجعل، لأن العامل فيه لا يستحق من الأجر شيئا إلا بعد تمامه، ما لم تحصل للمجاعل منفعة به بخلاف الإجارة، فإن العامل يستحق من الأجر بقدر عمله، وهذا أحد الأوجه التي تفارق الإجارة فيها الجعل، ولها أركان خمسة تتركب منها ماهيتها:
الأول: المستأجر، وشرطه أن يكون مالكا أمرَ نفسه، بأن يكون عاقلا بالغا رشيدا.
الثاني: الأجرة، وهي كل ما يجوز أن يكون ثمنا في البيع يجوز أن يكون أجرة، كونه طاهرا منتفعا به إلخ
الرابع: المنفعة، ومن شروطها أن تكون معلومة، تتقوم، مباحة، غير منهي عنها، فلا تصح الإجارة على شيء مجهول ولا غير الجائزة، كالإجارة على صنع أواني الذهب والفضة والغناء والنياحة وغير ما ذكر.
الخامس: الصيغة، والصيغة هي مادة الإجارة، أو ما يقوم مقامها من كتابة، أو إشارة، وغير ذلك، ويشترط في صحتها ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون العمل معلوما بمدة من الزمن، أو محدودا بعمل كخياطة ثوب مثلا.
الثاني: أن تكون الأجرة معلومة – أيضا – لهما، ولو بالعرف كأجرة الخياطة.
الثالث: علم المنفعة لهما أيضا، فلا تصح على المنفعة المجهولة، وحكمها الجواز بادئ بدء، إلا أنها تلزم بالعقد، وهو القول، ودليل شرعيتها من الكتاب قوله تعالى في حق سيدنا شعيب مع سيدنا موسى ـ عليهما وعلى كافة الأنبياء الصلاة والسلام ـ «إني أريد من أنكحك إحدى ابنتي هتين على أن تأجرني ثماني حجج» الآية، وقوله: «فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن» الآية، ومن السنة قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره»، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»، أو كما قال، وحكمة مشروعيتها التعاون وقضاء الحاجات مع احتياج الناس للعمل، وقد نبهنا الله تعالى لذلك بقوله: «ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا».
وقد حث الله تعالى على العمل وترك التكاسل، ليجعل الإنسان في درجة عالية عن طلب الغير والاعتماد عليه، كل ذلك مما يزيد الإنسان سعادة ورفعة دنيا وأخرى، ولا يخفى ما في ذلك من المصالح، وهاته السنة المطهرة، قد أمرت بالعمل والكد باليمين، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الكسب أطيب؟ فقال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور»، أو كما قال، نجد النبي صلى الله عبيه وسلم أجاب السائل عن سؤاله بخصوص هذين، كل ذلك يدلنا دلالة واضحة على ما لهذين الأصلين من الاعتبار والمكانة، إذ هما مما تنبني عليه ضرورة الحياة الدنيوية والأخروية، أما الأول وهو العمل فظاهر، وأما الثاني الذي خصصه النبي عليه الصلاة و السلام بقوله:« مبرور»فقد قالوا: إن البيع المبرور هو ما خلص من اليمين الفاجرة لتنفيذ السلعة وعن الغش في المعاملة، وقد قال تعالى في السعي والعمل: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى».
مساكن الطلبة:
للطلبة الزيتونيين النظاميين مساكن خاصة بهم، وتسمى »مدارس«، تعطى لهم مجانا وبلا ثمن، وهي من أحباس أهل البر والخير والإحسان، وهذه المدارس السكنية منتشرة في غالب الأحياء والجهات في مدينة تونس، وهي من الأوقاف الخيرية التي أوقفها ذوو الفضل واليسار والإحسان، على طلبة العلم لسكناهم، كما هي دليل على رغبة السلف في نشر العلم والإعانة عليه، بتخفيف المشقة على طلبته، حتى لا يضطروا إلى السكن في الأوساط التي لا تصلح بهم وبأخلاقهم، وكل مدرسة تحتوي على عدة حجرات معدة للسكن، بالنظر إلى المساحة التي تشغلها، فمنها الكبيرة ذات عشرات البيوت، ومنها الصغيرة التي لا تتجاوز حجراتها عدد أصابع اليدين، وفي كل مدرسة ـ زيادة عن الحجرات التي يسكنها الطلبة ـ مسجد للصلاة وميضاة للوضوء وبئر، وما جعل لجمع ماء المطر النازل من السطوح فيه، ويستعمله الطلبة في غسل الثياب وغيرها، ولكل مدرسة شيخٌ من شيوخ الزيتونة يشرف عليها، ويساعده على ذلك معين من كبار الطلبة القدامى، الذين يسكنون في نفس المدرسة »ويسمى ناظر«، ونظام هذه المدارس يعطي الأولوية والأسبقية في اختيار الحجرة أو المدرسة للقديم السابق في المدة على الجديد، في الاختيار، ولهذا لم يكثر تنقل الطلبة من مدرسة إلى أخرى، ومن حجرة إلى غيرها، مما هو أحسن وأليق من التي كان فيها، بالنظر إلى السعة والضيق، والقرب والبعد من جامع الزيتونة محل الدراسة، والمدارس التي سكنتها مدة الدراسة هي هذه على الترتيب والتقدم:
1 ـ “مدرسة القبة” نهج تربة الباي عدد 44
2 ـ “مدرسة النخلة” نهج الكتيبة، القريبة من جامع الزيتونة.
3 ـ “مدرسة الحسينية الكبرى” نهج سيدي الصوردو 44
4 ـ “المدرسة السليمانية” نهج السليمانية عدد 13 .
وبحكم العلاقات والاجتماعات في السكن والدروس، تكونت علاقات ودية فيما بين الطلبة، فكثيرا ما يقع بينهم التزاور في ليالي “الجمع” للمذاكرة والتدريب على إلقاء الدروس، ليواجهوا بذلك المستقبل الذي ينتظرهم بالعلم والتعليم.
ومن بينهم أحد أبناء حاضرة تونس، ويسمى الشيخ “الناصر” الباهي، فقد تكونت بيني وبينه علاقة أخوة ومودة استمرت إلى الآن مع صداقة حقيقية، فكنا كالأخوين في الرخاء والشدة، فتعاونا على مراجعة الدروس وفهم المسائل والتزاور في ذلك الوقت، يزورني إلى المدرسة (مقر سكناي) وأزوره إلى منزل والديه في باب السويقة، وكثيرا ما سهل علي أمر المعيشة ـ جزاه الله خيرا ـ فله والدة صالحة خيرة من بيوتات علية القوم وأهل الخير والعفة والصلاح، تسمى “أم كلثوم” “بنت الشيخ البحري، رحمها الله ونعمها بنعيم الجنة الدائم آمين، إذ هي من عائلة الشيخ البحري المشهورة في الأوساط التونسية، وهو من عائلة الشيخ الباهي، ولهم زاوية لها أوقاف على طلبة تحفيظ القرآن، فكانت والدته المذكورة كثيرا ما تلح على ولدها وزميلي المذكور أن يصحبني معه بعد الانتهاء من الدروس إلى المنزل لتناول الأكل معا، لتخفف عني مشقة الطبخ والمال، لأن الطلبة في مدارس سكناهم هم الذين يتولون طبخ أكلهم بأيديهم، على حسب النظام القديم، وفي هذا ضياع للوقت والمال، وقد نجح رفيقي المذكور في التحصيل على شهادة “التطويع” معي، وكانت دراستي مستمرة من غير انقطاع ولا إعادة لأية سنة من السنوات السبع اللازمة لاستيفاء جميع المواد المطلوبة، إلى أن نلت أنا ورفيقي شهادة”التطويع”، وذلك سنة 1348 هـ 1929 م. وكنت أتردد طوال مدة الدراسة في عطلة الصيف على القنطرة لزيارة الوالدة والأهل، إلى أن توفيت رحمها الله بتوزر (الجريد) في يناير 1932م ودفنت هناك، ولم أحضر وفاتها وحضرها أخواي الشيخ الأمين وأحمد العرافي، وانتقلتُ في شهر أكتوبر سنة 1929م إلى بلدة توزر (الجريد) في الجنوب التونسي برغبة من أخي المرحوم أحمد العرافي، لإعانته على تسيير أموره، فبقيت معه سنتين من أكتوبر 1929 إلى نوفمبر 1931 م، حيث كاتبني أبو النهضة الجزائرية، المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ راجيا مني أن ألتحق بالتعليم، وأنخرط في سلك معلمي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فلبيت، إذ هي المشرفة على التعليم الحر و الموجهة له في المدارس والمساجد الحرة في ذلك الوقت، وجمعيةُ العلماء في سنتها الأولى من تأسيسها، فلبيت الرجاء، وعين لي بلدية “القرارم” التي تبعد عن حاضرة قسنطينة بــ 54 كلم، فانتظمت في سلك التعليم الحر التابع لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعينني الشيخ عبد الحميد مدرسا وخطيبا في جامع القرارم الحر، من شهر رجب 1350 – نوفمبر 1931م في بداية السنة الدراسية، ابتداء من شهر نوفمبر من السنة المذكورة، وبقيت في التعليم وأعمال جمعية العلماء إلى أن قامت ثورة التحرير، سنة 1374 هـ 1954 م، وانتهت الثورة واستقلت الجزائر عن الاستعمار الفرنسي، وصارت اللغة العربية لغة رسمية بعد أن كانت لغة أجنبية، وبعد الاستقلال عدت إلى التعليم النظامي الحكومي، فعملت سنتين في ثانوية “حسيبة بن بوعلي في القبة” للإناث، وأربع سنوات في مدرسة أو ثانوية “الإدريسي” في حي المناورات، ولما بلغت سن الإحالة على المعاش وبلغت سن التقاعد عن العمل، أحلت على المعاش بطلب مني، وذلك في أول يناير سنة 1971م، والحمد لله رب العالمين، فلم يذهب من عمري ولو يوم واحد آسف عليه.
عملي في حقل التعليم:
انتظمت في سلك التعليم العربي الحر كما قلت سنة (1350 – 1931) فعلمت في بلدة “القرارم” السنتين (1931 – 1932) الدراسيتين، وفي 20 أكتوبر من سنة 1932 تزوجت في القنطرة، فكان ذلك بداية تكوين أسرتي، وفي سنة 1933 تركت القرارم وعدت إلى القنطرة بلدتي، فكلفني الشيخ عبد الحميد بن باديس بجولة في الصحراء لفائدة الجمعية وصحفها، واعتمدني للقيام بها في بسكرة، وطولقة، وسيدي عقبة، ووادي ريغ، وتڤرت إلخ، وذلك للدعوة لجمعية العلماء ولنشر صحيفتها في ذلك الوقت “الصراط السوي” ومجلة “الشهاب”، فعملت بما عهد به إلي، ولم تطل المدة بسبب دخول شهر رمضان المبارك سنة 1352 – 1933، فرجعت إلى القنطرة لقضاء شهر رمضان فيها، وفي أثناء شهر رمضان ذاك، عطلت إدارة السلطة الفرنسية الصحيفة المذكورة، فبقيت في القنطرة وعلمت في مدرستها “مدرسة الهدى” وشرعت في توسيعها، وفي السنة الدراسية (1936 – 1937) ألح علي جماعة بلدة “القرارم” في العودة إليهم للتدريس والإمامة فأجبتهم إلى رغبتهم، بعد أن خرجت من مستشفى قسنطينة، إذ دخلت إليه يوم 7 أوت 1936 بإشارة من الطبيب الجراح “قج” اليهودي، وبقيت فيه شهرين (1 أوت وسبتمبر 1936) من أجل إجراء عملية جراحية لإزالة “حصاة” من المثانة تشبه (نواة) عظم حبة الزيتون على يد الطبيب المذكور، وكانت العملية ناجحة والحمد لله، فقد عانيت من ألمها مدة سبعة شهور كاملة، وكنت مدة وجودي في المستشفى المذكور محل عناية وزيارات من قبل جماعة بلدة “القرارم”، وبعد خروجي من المستشفى وشفائي من آلام العملية تلك وإلحاح الجماعة، عدت إلى القرارم كما قلت سابقا، فأنشأت فيها مدرسة على النمط العصري، وتركت التعليم المسجدي للطلبة الكبار وعوضتهم بالصغار، وبقيت فيها إلى نهاية السنة الدراسية (1362- 1943)، حيث عدت مرة أخرى إلى القنطرة بلدتي نهائيا، وبعد نزول الأمريكان في الجزائر في أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث ضاقت سبل المعيشة، وقلت وسائل العيش والنظافة بسبب الحرب، فاشتغلت بالتعليم مرة ثانية في مدرسة الهدى، وأدخلت في التعليم تعليم البنات، مع الاشتغال بتوسيعها بإعانة “شباب القنطرة” الناشط، فتم ذلك، في سنة 1945، وفتحت رسميا في حفلة رائعة في ينار 1947 بحضور رئيس جمعية العلماء، الشيخ البشير الإبراهيمي، وعلماء تلك الناحية: بسكرة ، باتنة ،عين التوتة، ومنهم الشاعر الكبير المرحوم، الشيخ محمد العيد آل خليفة، وحيّا القنطرة ومدرستها بقصيدة تحفة في بابها من شعره البليغ، ومطلعها:
فتح جديد قد بدا في فتح مدرسة الهدى
وهي تشتمل على 51 بيتا، وهي في ديوان شعره، وقد نالت إعجاب من سمعها أو قرأها. وقد تعبت التعليم كثيرا من أجل المضايقات الفرنسية.
عملي في الإطار الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
وفي سنة (1366هـ 1936م) انتخبت عضوا إداريا في المجلس الإداري لجمعية العلماء، بعد أن كنت عضوا عاملا فيها من يوم تأسيسها، والتي يرأسها في ذلك الوقت مفكر الجزائر الكبير، المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، مع إسناد المراقبة لي في عمالة قسنطينة، ولما أنشأت جمعية العلماء “معهد” الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة سنة (1327هـ 1947م) طلب مني الشيخ البشير الإبراهيمي أن أنخرط في سلك أساتذته، فالتحقت به في شهر أكتوبر 1948 أول السنة الدراسية، وفي سنة (1370هـ 1950م) عينني الشيخ البشير “ناظرا” فيه، لأساعد مديره الشيخ العربي التبسي ـ رحمه الله ـ على أعماله، فقد كان يطيل الغيبة في بلده، وفي سبتمبر 1951، وقع تجديد انتخاب المجلس الإداري لجمعية العلماء، فانتخبني أعضاء المجلس الإداري أمينا عاما لماليتهم، ومديرا لمركزها في الجزائر، وفي المركز موظفون يعملون في لجنة التعليم التابعة للجمعية، وآخرون يعملون في صحيفة البصائر، وآخرون في إطار الجمعية، فانتقلت من قسنطينة إلى العاصمة، وتفرغت بكليتي وفي جميع الأوقات إلى أعمال الجمعية، وذلك في المالية التي كانت غير ثابتة، مع كثرة الديون التي كانت عليها من سوء التصرف، وكل يعمل لحسابه بلا نظام ولا مراقبة، مع الأشغال الإدارية، ويضاف إلى ذلك مالية البصائر والمعهد، والشروع في تكوين مطبعة خاصة بالبصائر والجمعية، وقد تعبت كثيرا، سواء فيما يعود إلى كثرة الأشغال أو إلى سلوك بعض الموظفين الذين ألفوا الفوضى وعدم المراقبة، وعلى كل حال، فقد تقدمت تلك المشاريع وأثمرت والحمد لله، فبقيت في الجزائر إلى الآن (إلى يوم وفاته رحمه الله)، وأستطيع أن أقول بكل فخر واعتزاز: إني خدمت جمعية العلماء خدمة كبيرة من الوجهة المالية لم يخدمها أحد قبلي، باستثناء المرحوم الشيخ مبارك الميلي رحمه الله، نظرا لأمانته وعفته ونظامه مع اختلاف الزمانين، بالنظر لكثرة مشاريع الجمعية في زمني، وقلتها في زمنه، غير أن قلوب البعض من العلماء مريضة بمرض الحسد والغيرة، فجعل الله على بصرهم من أجل ذلك غشاوة لا تبصر الواقع، ونكِل أمرهم إلى الله علام الغيوب والمطلع على ما في القلوب.
ولما قامت ثورة التحرير الجزائرية في (5 ربيع الأول 1374 هـ أول نوفمبر 1954 م) قل نشاط الجمعية، إذ انصرفت جهود الأمة الجزائرية بمجموعها ـ ومنها الجمعية ـ إلى تحرير الوطن من الاستعمار الفرنسي، وضعف عمل الجمعية في ميدانها، لتفرق جميع أعضائها من جميع الأصناف والطبعات ومعلميها، للعمل من أجل إنجاح الثورة، ولظروف الحرب الخاصة بها.
ولما رجع سلطان المغرب ـ المرحوم ـ محمد الخامس من منفاه في جزيرة “مدغشقر” إلى المغرب، رأت الجمعية أن توفد وفدا من أعضائها لمشاركة إخوانهم المغاربة في فرحتهم، بعودة سلطانهم الحر المناضل سالما معافى صابرا على ما أصابه من السلطات الفرنسية في سبيل وطنه وشعبه، فعينت الجمعية الوفد مركبا من الشيوخ: العربي التبسي النائب الأول للرئيس، محمد خير الدين النائب الثاني للرئيس، أحمد توفيق المدني الكاتب العام للجمعية، عبد اللطيف سلطاني أمين مال الجمعية. وهؤلاء هم أعضاء المكتب الدائم للجمعية. وبعد تعب شديد في سبيل التحصيل على جواز السفر ـ نظرا لظروف حرب التحرير الجزائرية ـ سافر الوفد المذكور يوم الأربعاء أول ربيع الآخر 1375 نوفمبر 1955م بالطائرة إلى الرباط ، وبعد توقف قصير في مدينة وهران لتناول طعام الغداء، استأنفت الطائرة طيرانها إلى مدينة الرباط ، فوصلناها في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال، فوجدنا السلطان قد وصلها قبلنا في الساعة الواحدة، ووجدنا الشعب المغربي بكباره وصغاره في فرحة كبيرة، يجري في الطرقات كالسيل العرم، فما رأيت مثل ذلك اليوم في حياتي إلا يوم استقلال الجزائر في عاصمة “الجزائر” يوم 5 جويلية سنة 1962، وفي يوم الجمعة 3 ربيع الآخر 1375هـ 18 نوفمبر 1855م، حضر الوفد حفلة إلقاء السلطان لخطاب العرش صباحا، الذي ألقاه في ساحة المشور، ذلك الخطاب العظيم الذي أعلن فيه أن لقب السلطان ألغي من الآن، وعوض بلقب “الملك”، كما أعلن فيه عن إنشاء حكومة ملكية دستورية، ولما حان وقت صلاة الجمعة، انتقلنا إلى جامع أهل فاس في المشور، فأديناها معه، والجامع المذكور إلى جنب القصر الملكي، ومن الغد (أي السبت 4 ربيع الآخر 19 نوفمبر) يوم مقابلة الشعب الملك بمناسبة عودته إلى ملكه، خص الملك الوفد الجزائري بمقابلة خاصة، قبل كل المهنئين، فدخلنا إليه وجلسنا معه حصة زمنية أبلغه فيها تحية وتهنئة الشعب الجزائري له، برجوعه إلى عرشه ووطنه سالما عالي الرأس، ثم خرجنا بعد أيام من الرباط للتجوال، وتجولنا في غالب المدن المغربية ذات التاريخ والآثار الإسلامية، فزرنا الدار البيضاء ومراكش، والقنيطرة وحد كورت، في ضيافة الأخ الكريم، السيد محمد خطاب الجزائري، وهو من أكبر الفلاحين في المغرب، وأصله من بلدة “الميلية” القريبة من قسنطينة، كما زرنا مكناس وفاس وإفران وتازة ووجدة، ثم عدنا إلى أرض الوطن عن طريق البر، يوم الأربعاء 29 ربيع الآخر 1375 هـ 14 ديسمبر 1955م، وقد لقي الوفد من لدن الإخوة المغاربة ـ وخاصة أعضاء حزب الاستقلال ـ كل تعظيم وحفاوة وتكريم، أينما حل وارتحل، كما وجدنا مثل هذا من إخواننا الجزائريين المستوطنين في المغرب.
جريدة الشروق 2011.08.03