الخروج من الجزائر فرارا من الثورة، من التولي يوم الزحف .
والمرة الخامسة: كانت بعد خمسة عشر يوما من الدعوة المذكورة سابقا، أي يوم الخميس 6 رمضان 1377 الموافق لـ27 مارس 1958، إذ جاءتني دعوة من المركز المذكور (شارع محمد الخامس) فذهبت كالعادة، والأسئلة كلها تحوم حول الثلاثة ملايين المذكورة، من وضعها عندك ؟ وما أوصافه ؟ وكم عمره ؟ بالتقريب، ومثل هذه الأسئلة : فيمن دفعتها له ؟ ومن أين جاء ؟ فأظهرت لهم بأنه لا علم لي بما تقولون ـ بعد أن قالوا لي إنها للثورة ـ وهكذا في كل مرة أصرفهم عما أرادوه.
والمرة السادسة: كانت قبل فجر يوم الجمعة 5 شعبان 1378 الموافق لـ13 فيفري 1959، حين دق جرس باب المنزل في الساعة الثالثة والنصف صباحا، وبعد تفتيش المنزل ـ طبعا وعادة ـ وبعد فتح الباب ودخول الضيوف الثقلاء، أخذوني معهم إلى مركزهم (فوق شارع برو) وبعد أن طلبوا مني إخراج كل ما تحتي، أدخلوني زنزانة مباركة مع من كان فيها، وقد وجدت فيها الشيخ الربيع بوشامة والسيد محمد فخار، وغيرهما، والزنزانة في مرآب كبير، جعلوا فيه عدة زنزانات، ومركزهم هذا قريب من “بولفار برو” الذي سمي بشارع الشهداء فيما بعد، فبقيت فيه تسعة أيام في البحث والأسئلة المحركة، ولم يأخذوا مني شيئا، والذي دلهم علي هو الشيخ الربيع بوشامة رحمه الله وعفا عنه.
وفي ليلة الأحد 14 شعبان الموافق لـ22 فيفري، أخرجوني على الساعة العاشرة والنصف ليلا، والعادة المتبعة عندهم، أن من يخرجونه في مثل هذا الوقت يقتلونه، لهذا خشي الإخوان الذين بقوا بعدي في الزنزانات، فأخذوني إلى ضيعة أحد المستعمرين بالقرب من القادوس بضواحي العاصمة، فبقيت فيها في بيت وحدي للبحث إلى صباح يوم الإثنين 22 شعبان الموافق لـ2 مارس 1378 – 1959، حيث أرجعوني إلى منزلي مغطى الرأس والوجه، كما هي عادتهم في كل مرة، حتى لا يعرف المكان الذي يقع فيه حشد الناس وبحثهم، وكانت هذه آخر مرة يأخذونني فيها.
والشيخ الربيع بوشامة الذي دلهم عليّ ـ كما قلت سابقا ـ كانت له صلة بالقائد عميروش، ولهذا قتل الجند الفرنسي كل من كان يعمل معه يوم قتل في مارس 1959، ومنهم الربيع بوشامة، وعبد الكريم العڤون، ومحمد فخار، رحم الله الجميع.
ومع كل ما لحقني، فإنني لم أبح لهم بواحد ممن أعرفه يعمل للثورة، فلم يصب أحد مني، والحمد لله، كما أني لم أفكر قط في الخروج من الوطن، هروبا من الثورة أو خوفا من جند الاستعمار، كما خرج غيري إلى تونس أو إلى المغرب أو إلى غيرهما من البلدان، التي ليس فيها ما في الجزائر، حيث ينام الناس فيها نوما هادئا مطمئنين من غير خوف من مزعجات الليالي، فبقيت في الجزائر صابرا محتسبا مدة الثورة كلها.
ولا أزال أرى أن ذلك الخروج ـ بقطع النظر عن الدافع إليه ـ هو من التولي يوم الزحف الذي نهانا الله عنه، ولا يدخل في رخصة التحيز إلى فئة.
وقد حفظني الله من كيد الكافرين، وهذا الحفظ أعده من تكريم الله لي، فله الحمد وله الشكر على ذلك، وقد نجاني مما أصيب به غيري.
فمن هذا الحفظ الظاهر هذه الحادثة: ففي ليلة الخميس 4 رمضان 1376 هـ الموافق لـ4 أفريل 1957م، دخل جمع من أعضاء اليد الحمراء المعروفة بالقساوة والبطش والقتل بلا رحمة ولا شفقة، إلى منزل الشيخ العربي التبسي، الكائن في حي بلكور الملاصق للجامع الجديد، النائب الأول لرئيس جمعية العلماء، في الساعة الحادية عشر ليلا، في وقت منع التجول والخروج من المنازل، وبعد تفتيشه سألوه عني وعن محل سكناي، فأخبرهم بأني أسكن في حي ساحة أول ماي (ميدان المناورات) فأخذوه إلى مكان مجهول وقتلوه.
أما سؤالهم عني، فقد سمعه منهم ابنه الأمين، حسبما نشره في الصحيفة الفرنسية “لاديبيش كوتيديان” على يومين الإثنين – 12 – 13 ماي والثلاثاء 14 ماي 1957 عن قضية والده في حينه، فحفظني الله منهم والحمد لله.
وبما أنني مدير مركز جمعية العلماء، فقد كان بريد المركز يوضع عندي، وكل واحد يأخذ رسائله من عندي، وفي يوم الإثنين فاتح أفريل 1957، جاءني البريد كالعادة، فوجدت فيه رسالة باسم الشيخ العربي التبسي، وكنا في مجلس فيه عدد من الإخوان الذين يترددون على المركز، فيهم الإخوة الشيخ العيد مطروح تلميذ الشيخ، والشيخ أحمد حماني، والشيخ باعزيز بن عمر، على ما أذكر، فلما ناولته الرسالة المعنونة باسمه، فتحها وقرأها فتلون منها وجهه، ثم ناولنيها وقال لي:
خذ اقرأ، فقرأتها وهي مكتوبة باللغة العربية وتحمل طابع (ألجي قار) بريد محطة الجزائر، فإذا فيها هذه العبارات: (إلى الشيخ العربي التبسي، نطلب منك أن تخرج من الجزائر حينا قبل أن يفوت الوقت)، وهذه ربما تكون نصيحة من أحد المطلعين على المكيدة والمشفقين عليه عرف تدبير المكيدة، فحاول أن ينصحه بهذه الرسالة، ولكن الشيخ العربي أبى أن يعمل بها، واختار البقاء في الجزائر، وبهذا تم ما أراده الله وقضاه له ـ رحمه الله ـ فقلت للشيخ: دعني أفكر في قضية خروجك من الجزائر، فقال لي أنا لا أخرج من الجزائر.
وبعد، فقد كتبت هذه النبذة المختصرة من حياتي بضبط ودقة لها ولتاريخ وقائعها، لتبقى بعدي عبرة ودليلا على ما مر بي في حياتي الماضية، ونسأل الله تعالى السلامة والعافية في مدة العمر الباقية، حتى نخرج من هذه الدنيا ونحن في سلامة وأمن من الفتن وما بعدها، آمين آمين، لا أرضى بواحدة حتى أزيد عليها ألف آمين.
يتبع..
جريدة الشروق 2011.08.08